top of page

حسين شاشي

نجوى بن شتوان

     يعتقد الجميع بأنني مت نهائيًا بمجرد العثور علي ميتًا. أنا أيضًا كنت اعتقد ذلك عن الناس؛ أنهم يموتون فعلًا حين ينقضي أجلهم، إلى أن جربت الموت بنفسي الأسبوع الماضي.

     كنت قاصدًا عملي في مصنع الأعلاف وصدمتني سيارة لاندروفر خضراء. ألقت بي بعيدًا عن الاتجاه الذي كنت أقصده، وفر سائقها هاربًا. كان إنسانًا طيبًا ومثاليًا إلى ما قبل الحادث بلحظات. كان يتكلم في الهاتف عن البر والتقوى وينصح إحداهن. لكن ما إن وقعت الواقعة حتى تنصل من مسؤوليته عن قتلي واختبأ بين الطيبين من جديد وكأن صدمي شيئًا لم يكن قط.

     كان الناس الذين اكتشفوا جثتي عند حافة الطريق خففوا احتضاري بتواجدهم رغم طريقتهم الخاطئة في إسعافي. جعلوا انتقالي إلى عالم البورصة سلسًا. نعم عالم البورصة، فعند الموت اكتشفت أن هناك أشياء تحدث، وأن الحياة لا تتوقف لمجرد أن الموت يلم بنا. لقد اكتشفت استمراريتها بشكل آخر وأن الموت ليس إلا منعطفًا يأخذ الأحداث إلى مسار غير مسارها ويغير من طريقة جريانها.

     بمجرد أن قام الطيبون بإسعافي في عربة أحدهم ومت داخلها، بدأ تغير الماهيات يحدث لوحده. أعطِيَ جسدي لإنسان ولد حديثًا في إحدى مزارع الأرز في الهند وحلت روحي في كيان جديد في إيطاليا. كانت حركة الانتقال والحلول تجري بسلاسة عالية ما بين الأجساد والأرواح مما يدل على أنها قديمة الحدوث. وكان عالم الانتقال يشبه عالم البورصة العالمية في الحياة الدنيا، مزدحم كمجتمع النحل لكنه فوضى منظمة.

    أخذ الطفل الهندي جسدي. سيقول من يعرفونني ويرونه إذا جمعتهم الأقدار أو الشبكة العنكبوتية به "يخلق من الشبه أربعين." كان لون سمرتي مناسبًا لشخص يولد هناك، ورقّة جلدي وتشبّعه بحرارة الشمس التي تشرّبتها طوال حياتي من ذهابي وإيابي للعمل راجلًا. كان جسدي صالحًا للاستخدام في ظروف بيئية مشابهة، لذلك من الطبيعي ألا يكون الشخص الحالي في جسدي صينيًا أو روسيًا، وإلا لحدث خلل في الطبيعة والطبيعة منزهة عن الخلل.

      أما الروح فإن سفرها غير محدود، لأنها حرة أكثر من الجسد، ويمكن لها الحلول في أي شيء من دون أن يعيقها مجال حسي أو غير حسي. لذا فإن روحي ما إن خرجت مني حتى دخلت بأول ما قابلها في خروجها، أو لنقل إن القوة الأثيرية التي تسير كل شيء وجهتها للحلول في قط ولد للتو في قرية فيتينا على ساحل البحر التيراني. ما أحسبني سمعت بها في حياتي قط عندما كنت إنسانًا. واصلت روحي التي حلت في جسد القط الجديد رحلة الموت داخل الحياة الكبرى تحت اسم جديد هو "شاشي."

     في بيت السيدة ميلودي التي منحتني الاسم، حاول حموها العجوز الوشاية بي مرارًا مغتاظًا من مغادرتي البيت وعدم عودتي لأيام. كانت السيدة ميلودي قد تبنتني ما إن ولدت في ركن بيتها مصابًا بالأنيميا. ولدت ضعيفًا باليًا ملتصقًا بالجدار كإعلان قديم. كانت للسيدة ميلودي روح طيبة لا أدري عمن توارثتها. حملتني بها دائمًا في حجرها وأطعمتني وسقتني وغسلتني إلى أن صرت قويًا جميلًا. التقطت لي بعض صور ووضعتها على حسابها في الإنستغرام مما حازت على إعجاب الكثيرين.

     كانت أمي القديمة فاطمة بنت مرزوق تتابع حساب السيدة ميلودي من قارة أخرى، وقد وضعت "لايك" عند صورتي حين مرت بها، ولا أظن عينيها اللتين علتهما غلالة من الدموع على فقدي قد عرفتني. حزنت لأجلها، وودت أن أقول لها شيئًا يخرجها منه لكني لم أملك قوله، فحدود عالمي هي أن أعرف وأرى وأسمع ولا أتكلم. كان الحزن يؤدي وجوده من خلال القلوب التي كسرها، وقلب فاطمة بنت مرزوق  أحدها. كان ذلك حتميًا وإلا فأين سيعبّر الحزن عن وجوده؟

     عرفني أصدقاء السيدة ميلودي وأقاربها ومتابعوها على السوشال ميديا قطًا جميلًا متخايلًا نجا من الخصي في عيادة الطبيب البيطري في آخر شارع سارنتينا، ذلك المكان المرعب الذي تخشاه الحيوانات الأليفة وترتعب من سيرته.

     لا أحد يعرف من هو الإنسان الذي كنته في عالم ما قبل التحول. وربما من الأفضل ألا يعرف أحد  أنني حسين الذي لم تسلم منه أنثى كبيرة أو صغيرة، ففي معرفتهم ما يسوء. سيفتتوني قطعًا بينهم، ويتحمل القط البريء جريرة ما لم يرتكبه. الجهل يعطي حياة للأشياء التي نجهلها وشاشي المدلل المرفه يستحق حياة طويلة.

     يا ربي، لا تدع أحدًا يكتشف القفزة التي تعتريه حين يرى أنثى، والوثبة التي كانت تعتري حسين أمام مدارس البنات وفي المولات.

     أصبحت أبًا لعدد هائل من القطط، كنت أعود للبيت مجهدًا لآكل وأنام. وكان هذا العمل المضني يرضيني ويعوضني عن السنوات التي عشتها كحسين.

     إنني قط سمين كسول ينام في الردهة ويخدمه الناس دون أن يحمل همًا أو ينشغل بشيء عدا السفاد. ومن باب التغيير لجأ إلى ما تلجأ إليه القطط عادة وهو الاختفاء أيامًا  وربما السفر وحيدًا دون رعاية الملاك.

     كنت مع السيدة ميلودي في القطار. وكانت تتحدث إلى امرأة أخرى تحمل كلبًا صغيرًا على ذراعها. كانت تحدثها عني وكأنني ابن لها. دائما اعتبرتني السيدة ميلودي كذلك، وإن كنت لا أعرف جدوى أن تكون الأم إنسانًا لابن حيوان، إلا أنني لويت عنقي وسكت، فالناس لم يبد عليهم الاستغراب الذي طالني كلما قدمتني السيدة لهم على أنني ابنها شاشي.

     انشغلت السيدة ميلودي عني في المحطة بمداعبة كلب السيدة الأخرى، فتسللت هاربًا من أمومتها إلى أمومة روما الوسيعة. تجولت في أرجائها بمطلق الحرية حتى قادتني المغامرة إلى لارجو أرجنتينا، فرأيت هناك أكبر مجتمع للقطط في روما وكان شيئًا لا يصدق بالنسبة لي. فالقطط هناك ينحدرون من نوعيات فاخرة. تشرب من نوافير روما وتأكل من طعام السياح، أي أن طعامها بسعر سياحي وليس من قمامة روما وفضلاتها المعتمدة على المعجنات.

     مارست السفاد هناك ليل نهار حتى خارت قواي. كادت روحي أن تخرج مني وتعلق بالترام المار من جانب اللارجو، لولا أنني تمالكت نفسي وارتميت على ظهري فوق أحد الأعمدة التاريخية. وجعلت الشمس تقلبني حتى سرت الراحة في جسمي المتعب وأمكنني التمطط والتلمظ من جديد. كانت هناك قطط جديدة تحوم حول العمود التاريخي، لم أستجب لها رغم بذلها جهدًا في استثارتي واستفزازي.

    كنت متخمًا أفكر في أي شيء بعدما شبعت من التسافد. لا أدري لماذا فكرت في الذهاب للأماكن القديمة وزيارة بيتي وشارعي وبعض أصدقائي عندما كنت "حسين." هل يمكن أن يكون الفراغ  هو ما دفعني؟

     تكلمت مع بعض القطط عن تجربة العودة إلى العالم القديم ورؤيته بعيون جديدة. قالت بعضها إن السفر في عالم القطط لا يكلف ما يكلفه في عالم الإنسان، إلا أنه روحيًا ليس سهلًا. وروى أحد القطط تجربته في السفر من روما إلى ليبيا قائلًا:

"ركبت أول قاطرة شحن إلى جنوه، ثم صعدت ظهر سفينة صيد تمارس صيدًا غير قانوني في السواحل الليبية. حظيت أثناء السفر برحمة الناس وعطفهم، فكان من يراني يعطيني الطعام والشراب إلى أن قبض علينا خفر السواحل الليبية واقتادوا المركب إلى الحجز. عاملوني كسارق فهربت من عصيهم وركلاتهم إلى مرابعي الأولى عندما كنتُ إنسيًا. كانت قريتي قد تغيرت كثيرًا وتحولت إلى ميناء للمتاجرة بالبشر. كانت تحت سيطرة الميليشيات وقطاع الطرق مما أخافني، لا سيما بعد أن سمعت شائعات عن ذبح الحيوانات لتزويد مطاعم  الشاورما باللحوم. خشيت على حياتي وانتظرت مجيء سفينة أسلحة تركية تفرغ حمولتها في ميناء مصراتة. صعدتها بكل طمأنينة وعدت أدراجي. أمضيت عامًا هانئًا في تركيا ثم عثرت عليَّ سائحة إيطالية في أحد شوارع أنطاكية. وقعت في حبي وأخذتني معها إلى روما. كنت أشبه قطها المتوفى مينوني مما جعلني أهرب منها لاحقًا لهذا السبب".

     ذكر قط آخر تعود أصوله للشرق الأوسط تجربته في العودة بأن الناس كانوا لطفاء للغاية في الطرقات. ما عدا شخص واحد كان يأكل شطيرة ويأبى إطعامه منها حين وقف أمامه ونظر إليه بعينين سائلتين. اضطر للمواء بجانبه لعله يفهم حاجته فلم يفهم. بل قام بركله ركلة قوية. وجد نفسه منها عند باب المطبخ الخلفي للمطعم فدخل ونال غايته من الطعام. قال إنه لم يشعر بالغربة هناك. وجد فئرانًا وقططًا وبعض الجراء تندس في الطناجر. وكان الطعام قذرًا لكنه لذيذ! إلى حد أنه بحث عن الرجل الذي ركله ليقبل قدميه ويشكرها على صنيعها. أعطاني القط عنوان المطعم علني أحتاجه إن مررت من هناك.

     ثم تدخل في الحديث قط أربد بشوارب طويلة. كان له رأي مختلف في السفر إلى عالم أرواح البشر القديم. وكان رأيه ناجمًا عن تجربة شخصية لم ينصح أحد بها. قال:

"كنت مثلكم في راحة تامة حين طرقت الفكرة اللعينة رأسي. ما أن دانيت باب منزلي حتى سمعت جلبة ناجمة عن حوار شخصين بالداخل. تعرفت على أحدهما من صوته والآخر تعرفت على الصحن الذي ألقى به أرضًا قبل أن أعرف من يكون. كان ثمة معركة كلامية بين زوجتي التي ينظر إليها على أنها أرملة مصطفى شينو، وبين الرجل الذي أدركت من كلامه أنه خليلها. كانت صدمتي عظيمة إذ لم يخطر لي مرة أن زوجتي يمكن أن تخونني!

لم يكن هناك ما يوحي بأنها تستطيع أن تغدر أو تريد أن تستبدلني بآخر. لم تشتكِ ولم تبدِ رغبتها في شيء. لم تكن متطلبة، لم تكن تفتح فمها بشيء على الإطلاق! وهنا عرفت بأنني حين كنت مصطفى شينو كنت ناقصًا ومقصرًا  معها إلا أنها لم تجسر على قول ذلك أو الإفصاح عنه.

كسرت نفسي وسحبت ذيلي وحاولت نسيان الماضي. حاولت القول لنفسي بأن تلك الزوجة لم تعد لي،  وإنني ما عدت أساسًا حتى مصطفى شينو الذي جربته جميع عاهرات المدينة والذي حق له أن يفعل كل شيء كرجل دون أن يمسسه عار أفعاله.

حاولت إقناع نفسي بأنني القط "ميجر" ولم أعد مصطفى شينو ولا يحق لي التدخل في عالم لم يعد عالمي على الإطلاق. وضعت ذيلي تحتي وأغمضت عيني في منور البيت والصحون تقرقع من حولي. لكن داسني عشيقها بقدمه وهو خارج للتدخين في المنور فعلقت بساقه وعضضته. ظللت ممسكًا به وهو يحاول تنحيتي بضربي وشدي من شعري والقذف بي بعيدًا. كنت مجروحًا مما فعله بتاريخي وبروحي فواصلت عضه وواصل ضربي وإلقائي خارج المنزل، فلما رآه الناس يضرب قطًا ضعيفاً لاموه وزجروه. 

إنني أنصحك بعدم التفكير في العودة إلى العالم السابق. كم أنت محظوظ بدور القط الذي أنت عليه. تمتع بحياتك المجانية ولا تبحث عن الشقاء".

     فكرت في كلامه ملياً ونسيت أمر حسين والشوق لأم حسين وعدت إلى السيدة ميلودي. فلما رأتني أدفع الباب داخلًا، ألقت من يدها خرطوم سقاية النباتات وحضنتني ماسحة عني تعب المشاوير.

قالت:

"كنت واثقة من عودتك، إن روح القطط فيَّ لا تخيب."

الدكتورة نجوى بن شتوان هي أكاديمية وروائية ليبية. لها أربع روايات: وبر الأحصنة، ومضمون برتقالي، وزرايب العبيد، وروما تيرمني. بالإضافة إلى العديد من المجموعات القصصية والمسرحيات والمساهمات في المختارات الأدبية.
هي أول ليبية تترشح للجائزة العالمية للرواية العربية عن روايتها زرايب العيد (في القائمة القصيرة لعام 2017)، وترشحت مجموعتها صدفة جارية للقائمة الطويلة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية (عام 2019).نالت جائزة عرب ليت عن قصتها "عقبة الباكور" (عام 2019).

 
 

bottom of page