top of page

الموت مثل السابلة

صالحة حسن

يستيقظ كل يوم حتى يشرع في أن يكون مادة حية، فبلوغ الاستيقاظ يعني بلوغ الضوء، لكنه عندما تنفتح عيناه في الصباح، لا يساعده الضوء في شيء، لا على الرؤية ولا على العمى.
يستمهل الغبش، وفرقعة العظام، ومجارف العمال، وأحذية المارة ونباح الكلب، والظلال. يطرد الملاءات، والأفكار الزرقاء، وتعب العمر والصباح. يرفع الجسد، كما يرفع أحد الستائر المحايدة عن النافذة، أو الممسحة المتسخة عن البلاط. وعندما يقف أخيرًا على أقدامه، لا يصدق أنه احتاج كل هذا الوقت لولا أن لسعته برودة الرخام، وبدأ يخلع ثيابه كلها.
يمشي إلى الحمام، كأنه ماشٍ إلى تشييعه، يستحم ثم يقول: لا بد أن أقر أنني إنسان عادي ولا دخل ليّ بالمصير. وعند المغسلةِ، يحاول غسل رائحة النوم من فمه، لكنه يقفُ خمس دقائق كاملة، يحاول فيها أن يذهب ما يشبه النوم ولا هو كذلك، بل أقرب إلى رائحة جلود الكائنات الميتة. ولا يفيد هنا عمل معجون النعناع أو حبات الهال، فالمبعث قديم وعميق.
يُلمع المرآة، فيرى وجهين، أحدهم يجر الآخر على وجهه منفعلاً من التعب. مشهدٌ يغوص عميقًا في الزرقةِ، يذهب بعيدًا داخل الضباب المتثاقل للبرد والزكام. لكن هذا الشتاء لا يجلب الراحة عند وصوله، مثل أن تتحدث أو تظّل صامتًا، كل شيءٍ مغمور في البرودة. وللتو بعد تلك اللحظة المنحدرة، يرحل الهواء، الجو هناك مضغوط ورطب، فيخرج، يرتدي ثيابه، ويذهب إلى العمل.
وفي الطريقِ للذهاب يعرف أنه عاطل عن العمل، ويتذكر كل شيءٍ هكذا دونما جهدٍ أو رغبة.
يجدُ ما يشبه المصطبة عند قارعة الطريق، فيجلس وينتظر، لكن ماذا ينتظر؟ لا يعرف.
لديه الخبرة ليعيش، لكن الفرص تتضاءل أمامه، إذ لم يبق أحدٌ ليحبه في حياته. كيف في وسع الإنسان أن يعيش حياة لا يحبهُ فيها أحد؟
ويعيش، لا للخبرة، لا للفرص، لا للمحبة... بل للضرورة يعيش، ويغلق الباب. وحديثه الذي يترامى على مسامع من لم يجربوا أن يعيشوا للضرورة مثله، يبدو مضطربًا وممسوسًا، كأن ثمة حشدٌ حشر كله في حلقه. وإذ يقف أحيانًا مثل من يشيخ أو يموت ليتحدث قليلاً عن ماضيه مهما كان وسخًا، تتناهى الأصوات المختلطة إلى أذنيه؛ ثمة من ينبح، من يغني، ومن يقول الحقيقة. لكن ومن بين الأشياء القديمة كلها، يكون الموت حيرةً بين الذكريات. فلا يستطيع الإنسان أن يكتسب معه خبرة ولا يجرؤ أحد على اعتباره فرصة أو محبة. فعندما يموت أحدهم، ثمة حياة كاملة تنسحب حاملة معها ذكرياتها.
كان يظن الأمر سهلاً، أنه سيحزن باختصار، حتى انتحر الأصدقاء تباعاً، وبقيت ذكرياتهم هناك، تحافظ على طبيعتها الوحشية الخالصة. أصاب أصدقاءه ما أصاب جميع البشر... من المشقة وغياب الحنان والمأوى. لست بحاجةٍ إلى الحقيقة عندما ينتحر أحدهم، فعندما تموت ينفتح باب الحكم الذهبية على مصراعيه.
يرفع نظره، فيرى وجوه أصدقائه و يغبطهم. للحظةٍ يفكر في أن جروحهم كلها التأمت، وأنهم تخلصوا منها إلى الأبد. يعود ليقع في الحزن والكآبة معًا، ويتساءل، كم المدة التي يحتاجها جُرحه ليلتئم؟ وإذ يغطي السخام عيناه، يعرف أن الجمرة في قلبه لا زالت تتقد، وأنه مهما شرب ماءً باردًا أو نضحت مسامهُ عرقًا أو مشى عاريًا في شقته في الشتاء، لا شيء يشفي. إذ لا شيء يجدي.
يتلفت يمينًا ويسارًا، يرى تدفق الناس في الشوارع، مئات بل آلاف الروائح والزفرات، المرارةُ تنداحُ للأمام ببطء، العيون تيبسُ في الوجوه كبيانٍ على انتهاء الآمال واليأس. الأيدي تتدلى كإكسسوار، والأقدام تكبر في العمر. أي احساس هذا الذي هو فجأةً كطعمِ الدوخة والصداع! لا أحد ينظر إليه أو إلى أي أحد. ويعود مستعينًا بجسدهِ يحاول أن يُقيم حدبة ظهره، فيشعر بالمحقِ يفترشُ عموده الفقري، يتجاهل كل شيء، حتى أنفاسه التي لم يعد لها أثر ملحوظ على رئتيه. يبحلق في المارة، لا شيء. يقول: لا شيء.
لا شيء يؤدي إلى الإيمان، لا شيء يدعو إلى المحبة، تتعامى الأرواح مثل أشياءٍ معلقة لا أمل في تحررها، لكنه لا يغفل عن شعورهِ بالشفقة تجاهها. وفي تلك اللحظة، حين يغدو كل شيء سواء، يكون السكون شكلاً من أشكال العنف. فمهما تمد نظرتك للآخرين، لأسباب عظيمة أو تافهة، كل شيء سواء.
يضجر، آهٍ السخطُ والتذمرُ الذي لا يمكن الإفصاح عنهما. ثم ينهض، فيتبدى له وجه رصين بين الجموع الملفقة، كالحنانِ في غمرة الأخطاء. يمشي ليناديه، فيجده جالسًا كرجل هادئ جدًا ومقفلًا على ذاته. يتشاغل بالحذر أو الخجل، ويقع مليًا في السهو والكتمان. له سيماء سطوح المنازل القاتمة. ينظر إليه، ثم ينظر إليه بتمعنٍ، لكنه لا يستطيع تبيانه. مرةً يبدو كجثةٍ ليس لها مستقبل، ومرةً كأشياءِ المساءِ التي تداهمك حالما تتمدد، فتورثك العجز والبؤس. ومرةً أخيرة يبدو مثله، رجل في الثلاثين من عمره، لا يعرف كيف يقلع عن عادة التدخين أو الانتظار. يجلس كل منهما في عطفٍ، كأنهما تقاسما نفس المحبة ذاته. النّفس الذي لا يهب الراحة لهما بل للآخر.
صمتٌ جم، مثل الذي يتدلى ثقيلاً حين يأتي المساء، فتذهب باكرًا إلى المنزلِ، لتحصي الجنازات والعمر. ينحني كل ليلة من تلك الليالي انحناءة مملوكة للموت، يرتق خلالها ذاكرتهُ من الوجوه المتفرقة في الجنائز، ومن صلواتهم التي لا يعلم لم تتلاشى قبل أن تدخل قلبه؟ لو أنه لا يتفسخ في الموت هكذا، لو أن أحدهما لا يقع في الآخر أكثر.
يقول: أتُراك تعرف لماذا لم يدخل الموت من الباب الأمامي؟ ويكمل: لماذا لا يدخل الموت في عمر الوقت؟ لماذا حياتي هي من تدخل في موت الأصدقاء والجيران؟ ويحكي له، كيف قرر أن يربي كلبًا، الكلب الذي كان يسمع صوته جيدًا في جنازات الأصدقاء. الكلب الذي ما إن يفتح فمهُ للنباح، تذكرهُ رائحته الكريهة بجثة الجار في الشقة المجاورة. يذكر كيف ظل كلبه ينبح، لكنه لم يوقظ الجثة قط. ومن وقتها وهو هكذا يقول: بكل البلادة التي أعرفها في الصباح كنت أنهض، أغسل وجهي أو أستحم ثم أخرج، وعندما أعود أشعر بالدوخة أو الصداع، فأقرر أن أخلع حذائي وأتمدد، ويقرر كلبي بعد أن يتقيأ أن يتمدد بجانبي، وأدرك حينها أنني ربيت كلبًا عاطفيًا، وأن الوهن يصيبه على مهل. وأنني أمضيت كل حياتي أغسل وجهي أو أستحم ثم أخرج.
فيرد: في الموت يجب أن تكون مشجبًا، وتترك الآخرين يعلقون أعطافهم عليك بهدوء. يجب أن تأخذ في التعودِ شيئًا فشيئًا للذهاب والإياب في الموت والأخطاء، حتى لو صعد الورم وداء الدوالي في الأقدام. وحين لا تُجهد لفعلِ تذكره بل يأتي بالسليقةِ، بلا آلام في الصدغين أو العظام، كأن ثلاثين عامًا تغادرك بصفقةِ باب. أغلق عينيك بدعةٍ. أصغِ. ثم اذهب إلى منزلك ولا تكمم النوافذ.
يتلفت لينظر من حوله ببداهة غامضة، النّفس الهائل للغروب يسري في كل العناصر. العالم يبدو قريبًا جدًا، كأنه تدلى من قامته إلينا. الهواء ثقيل كأن وجه العالم الذي تدلى مصاب هو أيضاً بالزكام.
"هل ينتهي كل شيء؟"
يقول: "ليس هذا ما كنت أود قوله، أعني: سأذهب إلى المنزل."
يخطئ دائمًا في تحديد الوقت الذي سيحضر فيه أحد لتشييع جنازته، لكنه كان انطوائيًا وهذا كل ما في الأمر. ولأنه كان دائمًا كظل ومات في العتمة وحيدًا، كان عليه أن ينتظر، أن تنقضي الليلة ويقترب أوان طلوع الشمس، وللمرة المئة يقترب أوان طلوع الشمس، ولا أحد يقترب لتشييع الجنازة. يخطئ دائمًا في تحديد الوقت، لكنه كان انطوائيًا وهذا كل ما في الأمر. الآن يستطيع أن يموت كما يموت الجميع.
هكذا ودعتني، كان حدادًا مفعمًا بشعور الوحدة، إذ إن هذا الموت، موت حقيقي، بلا أناس من لحم ودم.
وفي قصة أخرى، ثمة سعادة لا توصف في الموت داخل المنزل.


صالحة حسن هي قارئة وكاتبة من مواليد 1997. يمكن متابعة حسابها على تويتر @salha813

  • Instagram
  • Facebook
  • Twitter
bottom of page