top of page

الحياة ليست بذلك التعقيد

رهف آل روزة


The rain is drumming the war song on my skull
I’ll hate for you, my love, to see the hungry gull
Set your sight on clovers and swaying flowers
And in my absence, please, don’t count the hours
- روبرت كلارك الثالث في قصيدته ”ما لم ينطق به فيليب."

الحياة ليست بذلك التعقيد.
ليست كما تبدو لك وأنت في وسط الفوضى.
حياتك لا تعتمد على خطوتك التالية ولن تقف إن امتنعت عن المسير.
الكرسي صُنع لراحتك فلا تجرده من قيمته فتهجره أو تكسيه معنى غير الذي خُلق من أجله. لا تجعله عقبة في طريقك تلقي به حتى تُكمل المسير.
استرح قليلًا، تنفس حتى تُكمل المسير.
اصغِ لنفسك ياروبيرتو.
ياروبيرتو، أولست أحق بنصائحك من غيرك؟
ياروبرت كلارك الثالث ألا لك أن تستمع لنفسك قبل أن... لا، لن أقسو عليك. يكفيك من الأسى مجتمع لا يفهمك ونفوس لا تحنو عليك. يكفيك كونك شاعر يقاسي تقلب المشاعر ويتشرب أحاسيس البشرية كالجلد إن مسه الماء مترعًا به لكن يأبى ردَّه. يُدرك حلوَه ومرَه وصقيعه ولهيبه ويَألفُه، فيعز عليه أن يمنعه. في نهم دائم يتشربه بغزارة ويذرفه بكثرة.
يكفيك هذا ياروبيرتو، يكفيك.
سألتني والدتي ذات يوم كان القمر فيه يتوسط السماء وحيدًا لا نجم يؤانسه أو يُعِيره شيئًا من بريقه حتى لا يتكلف بإنارة الأرض بأجمعها لوحده. سألتني والقمر يُمد لي بشيء من ضوئه حتى أتمكن من الكتابة. قالت: "ماذا ستفعل الآن وقد أفلس الجميع وأُغلِقت الأبواب؟ هل تظن أننا بحاجة لكاتب والحرب تنهشنا كبارًا وصغارًا؟ ما عادت لدينا رقاع تستُرنا بعدما لففنا موتانا بما نملك من ثياب، ملاءات وستائر. لعل ورقك هذا هو آخر كفن متبقٍّ!"
ماسمعته أُذناي حينها كان: " سِرْ ياروبيرتو! الحياة تعدو وعليك أن تُجاريها. لا وقت لنَظْم الأبيات ولا مجال للتغني بالقوافي. دع الموسيقى تصدح في رأسك بينما قدماك مشغولتان بالجري. أَعِد لنا الحياة فنحن لسنا بمترفين لنتتبع الأبيات ونتناقل الأشعار. عليك أن تجري؛ لا أن تسامر القمر وتُصَبِّح العصافير وتتفحص النقوش على جذوع الأشجار وتتأمل انحناءات الأزهار. سِرْ مسيرة الصبيان في عمرك عازمًا على النصر ومتلهفا للعودة للديار منتشيًا بالفخر."
وددت لو أخبركِ حينها يا أماه أن الحياة ليست بذلك التعقيد، فأنا لن أكون من يجلب لدولتنا النصر. لعل ما كنت سأحققه لو أنني استسهلت الحياة هو توفير حلاوة المعنى لمن شبعوا مرارة الحياة، أو صدى لمن يدسون الموسيقى داخل رؤوسهم. لعل استمراري بالكتابة كان مصدر عزاء لمن كثرت لديهم العلل وشح قولهم، لمن قلبه جريح وكلامه شحيح. لذبيح الكتمان، طريح المصائب، قريح الفؤاد، صحيح الفكر. لو، كلمة تسقط بصاحبها لهاوية الندمان، لطالما رددتها حتى أصبحت معزوفة، ظنها رفقائي في الجيش تهويدة أو نشيد شعبي من تراث مدينتي الصغيرة.

كان رفيقي فيليب، وبالرغم من صغر سنه، يأبى العودة للوطن. بقي منتصبًا على جبهة المعركة واعدًا النصر لكل من يتلقى رسائله. كنت أخبره بأنه مازال صغيرًا على شدو الألحان الوطنية وترديد الأناشيد القومية. صغيرًا على ترديد القسم وتأكيد الوعيد وتكرار التهديد. كان ذلك الشاب، ذو التاسعة عشر من عمره، مصرًا على أن يعود رجلًا في عيني أبيه وبطلًا في نظر وطنه. سألته ذات مرة: " يا فيليب، ماذا تريد أن تصبح في مستقبل لا يتخلله دوي القنابل ولا صرخات دموية؟" أجاب بنبرة شابة لنبرتي الخافتة التي لطالما تخوفت جذب الأنظار "أريد أن أقف يومًا أمام أبي ممسكًا بيدي اليمنى يد زوجتي وباليسرى ابني. أريد أن ينظر لي ابنى بانبهار بينما والدي تعلو على وجهه نظرة فخر." وقع ناظري على يده اليمنى التي تتلحف السلاح، وكأنها تربطهم صداقة قديمة. تلتف أصابعه حول السلاح بلا خجل أو استغراب، بينما تتعجب أصابعي من ملمس السلاح الذي حل مكان صديقي القديم. تترقب ملمس الجذع النحيل لقلمي وترتعش تحت ثقل السلاح الذي استبدل خفة القلم. صديقي فيليب كان كل ما فيه يصرخ "أريد أن ينظر الجميع إلي."
لم يكن يخشى كيد الأصدقاء ولا مكائد الأقارب. كانت مازلت معالم الطفولة تزين وجهه. كان شعره مائلًا للحمرة وبشرته لونها الرب ببقع متوزعة كما لو أن وجهه سماء من نوع آخر بسماء مبيضَّه ونجوم بنية. تعلو شفتيه شعرات متفرقة لم تكمل خط شارب بعد وتلون خديه حمرة تتفجر كلما علته الحماسة واستطرد بالحديث عن مستقبله. وبالرغم من عظم وعيده وفرط شجاعته، إلا أن هيئته نحيلة تضيع داخل بذلته كطفل مُتنكر بلباس أبيه.
"هل تنتظرك يا فيليب حسناء مكلومة تبدأ يومها برحلة لمكتب البريد وتنهيه بروي الورق غزير دمعها؟ أم أنك رجل تقليدي تنتظر والدتك لتخبرك عن ابنة الجيران التي تبدو مناسبة للزواج؟". كنت قد سألته في إحدى مناوباتنا الليلية، وإذ حمرة وجنتيه تسارع لتفصح لي بالجواب قبل أن ينطق به فيليب.
"أنا.. حسنًا، حينما يأتي الموضوع للزواج فأنا…. سارة، اسمها سارة". تمنيت ان تكون بالفعل سارة مبهجة لتنسيه منظر الجثث المترامية فيراها كالأطفال فوق الثلج ممتدة أطرافهم ليرسموا الفراشات على بياض الثلج.
يسرح بي خيالي بذكرى فيليب بينما أنظر إلى يدي اليمنى وأتنهد موشحًا بالنظر إلى يدي اليسرى.
أتذكر حينما سألني فيليب ذو النظرة الحالمة والخوذة تحتضن رأسه وتعانق أصابعه سلاح الدمار،
"ماذا عنك؟ هل تفكر بالزواج؟" ببراءة أطفال وكأن الزواج ما هو إلا شخصان تجمعهما كلمة أحبك.
الزواج؟ هل سيسمح لي والد ميليسا بالزواج بابنته العزيزة؟ ألا يكفي أنني ذهبت للحرب بقدميّ كي يراني كرجل كفء بدلًا من شاعرٍ متذمرٍ باكٍ؟ كان الجنرال ألبرت رجلًا تتفجر منه الرجولة أو ما يصفه الناس بالرجولة. بذيء اللسان، دميم الخلقة، جلف الطباع. أصرت ميليسا أن نجتمع على مائدة العشاء لأفصح له عن نواياي. أتذكر يدي اليسرى وهي متشبثة بيد ميليسا في انتظار حكم والدها. رأيت الرفض في عينيه قبل أن ينطق به لسانه. بعد أيام من الجدال بيني وبين ميليسا، حيث شكت فيها من رسائلي الكاذبة، وعودي الزائفة، وشجاعتي المتضائلة، قررت أخيرًا الانضمام للجيش.
"إذا أصبح لكلماتي وزن وتبادلها العامة كما يتبادلون الأوراق النقدية لشراء قوت يومهم، إذا أصبح للكلمة وزن واستعصى على الناس إكمال يومهم دون غذاء للروح، حينها سأتزوج يافيليب. أخشى أن لا يفتح لي أحد بابه إذا ما ظللنا نتناقل الكلمات على هيئة أخبار وتحذيرات أو لائحات وإعلانات أو إرشادات وتوصيات. إذا بقيت متوسدة بلباس رسمي لا يتسم بشيء من الجمالية. إذا استمرت الحرب في الحط من مكانة الكلمات بتحويلها إلى رموز وشفرات تُقصّر من عمر الجمل لتصبح دائمًا صغيرة فلا تكبر لتضم التشبيهات والاستعارات".
وقفت عن التحدث عندما شعرت بنظرات فيليب تتهمني بخيانة الوطن. عذرته فهو صغير على فهم ما أمر به ولو كان يصغرني بسنتين فقط. تمنيت حينها لو أني أستطيع التعبير لأحد يفهمني. قَبَضَتْ يدي اليمنى على سلاحي ظنًا منها أن قلمًا يسكن بين أصابعي وكأنه سادس لأصابعي الخمسة. عذرتها هي أيضًا، فقد اعتادت التشبث بقلمي كلما تزعزعت الأرض من تحتنا. القلم الذي شعرت وكأنه يجرني مسترسلًا بكلماته تتخللها دموعه على هيئة بقعة حبر وعجزه على شكل نقطة في آخر السطر. يدمي على الأوراق أشعار لست أدري أهي صنيع مخيلتي أم من صنعه. أحن لأيام كنا نذرف الدموع معًا.
لا يسعني ألا إن أقول أن الحياة ليست بذلك التعقيد.
فلو أن والد فيليب أغدقه بالمديح وأمطر على مشاعره الجدباء كلمات الفخر، لما نكس رأسه فوق قبر فيليب في عيد ميلاده العشرين. ولما خارت قواه فوق هضبة التراب التي ملئت بطنها ببراعم الشباب. لو أنك يافيليب فطنت لبخل الآباء بالكلام وأدركت جهلهم بأنواع الجمل غير الفعلية. لو أنك يافيليب نظرت للبشر من عدسة شاعر تتبع عيناه رعشة اليدين ورفرفة الأجفان وتتقفى أثر التجاعيد والندبات باحثة عن معنى. لو أني نظمت قصيدة تترجم مشاعر والدك وكنت حلقة وصل بين المشاعر واللغة، لربما حينها عدلت عن الذهاب للجيش وأدركت أن أباك يريدك طفلًا باسمًا عوضًا عن رجلًا هامد.
أماه، الحياة ليست بذلك التعقيد.
لو أنني لازمت قلمي، لما افتقدته الآن. لما اضطررت لتوديعه بعدما تَركتُ يدي اليمنى مبتورة وسط الدماء. تسبح بالدماء وكأنه لا يكفيها أن تفارقني، بل تعيش أخر لحظاتها ظنًّا أن ما ينزف تحت أناملها نهر من الحبر هاجر إلى كفها لتصنع منه معنى. لو أن يدي اليمنى بقيت بجانبي، لربما استطعت أن أنتشل فيليب من الخطر. لربما استطعت أن أمسح على رأسه وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة.
أمرني فيليب بنبرة تترنح بين الطفولة والرجولة وبين الحياة والموت قائلًا: "أخبر أمي وأبي أنني أحبهم وأرأف بحالي وحالهم وأتلو عليهم إحدى كذباتك. أخبرهم أنني مت بطلًا وأسقطت معي كتيبة من جيش الأعداء. سارة- أبي! أخبر أبي أنني لم أمت بسهولة، وأن صرخات الأعداء تعالت كلما رأوني ناهضًا من سكرة الموت حتى أمطر عليهم بالرصاص. وسارة، أخبر سارة أنني انتشيت بالنصر عدة مرات واحتفلت وسط جمع من النساء. قص عليها قصص خياناتي وفسادي علك تخفف عنها وجع الفقد". لو كانت ما تزال بجانبي يدي اليمنى لاحتضنتك يافيليب للمرة الأخيرة.
أما الآن، أجلس على طاولة الطعام التي كانت سابقًا مكتبي المتواضع. أستعين بالمصباح بعد أن خفت ضوء القمر، وأندس خلف النافذة. أميل على جانبي الأيسر مثقلًا بوزن يدي اليسرى التي تقبض في كفها الفراغ بدلًا من يد ميليسا، بعدما أصبحت يسراها في يمنى رجلٍ آخر. تُوصِد والدتي باب المنزل بعد يومٍ شاق من العمل بعدما أصبحت المعيل الوحيد لابنها المبتور.
الحياة ليست بذلك التعقيد يا أماه.
فالحرب مازالت مستمرة بالرغم من محاولاتي في إيقافها والعامة غدوا جرحى البدن والعاطفة. وأصبحت يدي عاجزة عن الدفاع والمواساة، فلا أمنع الأذى عن أجسادهم ولا أشفي القلوب من أوجاعها. لو أنك يا أمي رضيتي بي شاعرًا وكاتبًا لربما استطعت ترك أثر قبل أن تهوي ببيتنا الصواريخ جاعلةً منّا جثثًا قتلتها الحرب قبل الصواريخ.

رهف آل روزه خريجة لغة إنجليزية من جامعة جدة وحاصلة على الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة الملك عبدالعزيز. مهتمة بكتابة الشعر الإنجليزي والقصص القصيرة باللغتين العربية والإنجليزية. يمكن متابعة حسابها على منصة إكس: @RahafRozah

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page