الساعة التي بدت لموظفيها مديرًا
بلقيس آل رقبه
يجلس مثله مثلهم، بالوضعية التي صمم لها الكرسي. ويحمل مثله مثلهم، أقلامًا ودباسة وخرامة. يعتقد بملكيتها إلا أنها للمكتب الذي ظل فيه عشرين عامًا حسب التقويم المفتوح على صفحة تشير إلى 2005 وعبارة للشافعي لا يمكن تبينها بمجرد نظرة سريعة. ولولا تقاعس كرسي الموظف السابق عن تحمله لكان جالسًا عليه لليوم.
"الله أعلم مين بيجلس على الكرسي بعدي" تساءلت خلية في عقله، وابتسم لمؤخرة تكسر محاولاته في الحفاظ عليه طوال سنوات خدمته. ولو أنه ضحك بصوت يهز المكتب لما لاحظه أحد. فالساعة لم تصل لتمام الخامسة حتى يرفع موظفيها رؤوسهم. ارتبكت ابتسامته في إدراك لما حدث وأسرع يعيد رأسه إلى الجهاز أمامه محاولًا إكمال ما بدأته أصابعه في التاسعة صباحًا. بقي خمس وعشرون دقيقة على دقة الساعة. تطلع إلى الأحرف المحشورة في أقواس لكنه لم يعرف ما كانت أصابعه ستختار تاليًا. خلية أخرى تدخلت "مين الشافعي؟" ارتبكت خواطره "مو وقتك.. مو وقتك!" وضع أصابعه على المفاتيح وحركها بعشوائية علها تعرف طريقها. أرخى كتفيه ليتشكلا مع الكرسي ويظهر كما يفترض به "خلك طبيعي" أمر نفسه وتمنى ألا تلاحظ الكاميرات حركة شفاهه. أجال أذنه بحثًا عن متمرد مثله. وفي جولته التي تحتاج لالتقاط أنفاسها، سمع عطسة وحمدلله متبوعة وقلبه الموشك على الهرب. "متمرد!" كما وصفه العقد تحت بند السبب الموقع للجزاءات "أيش كانت الكلمة بالضبط؟ متمرد ولا خائن.. لااا أظنها عاق نظام الساعة!" بدت له الساعة منذ أول يوم شرح فيه نظامها مديرًا بصفات لا يفهمها حتى موظفوه، ففي تمام التاسعة صباحًا تدق دقة تستلزم اجتماع أربعة عقارب لتدفن رؤوس موظفيها في أجهزتهم، وتمنع أي خلية في عقولهم من التحرك خارج إطارها حتى يتموا الثماني ساعات المطلوبة حينها تسمح دقة العقارب الأربعة في تمام الخامسة لسيل الأفكار والخواطر والتعليقات التي كانت ستقال، بالانصراف مع أصحابها.
ترقبت أذنه وقلبه فوج حرس يرسله من في الكاميرات لسحب العاطس من كرسيه، إلا أن العطسة لم تكن عقوقا أو أيا ما كانت عليه الكلمة.. بقي خمس عشرة دقيقة على دقة الساعة، ولأنه استحال عليه الثبات بالوضعية المفروضة، قررت خلايا عقله كفعل تلقائي الذهاب لقضاء حاجته مثلما قضى زميله عطسته. مع ذلك وبحذر رفع نفسه، مكملًا تمثيليته ليكون لحجته الطبية -إن اعتبر فعله عقوقا- ما يثبتها. لكن الرؤوس المدفونة في مكاتبها تركته واقفًا مكانه، الرؤوس الممتدة على مدى بصره والمتعدية لعدد أصابع يده وقدمه وربما قدرته على الحساب. من وسط ذهوله حاول تسمية أي أحد من الرؤوس، إلا أنه لم يجد اسمًا أو حتى ملامحًا يعطيها اسمًا. لم يكن يعرف أصحابها أو ما يفعلونه أمام أجهزتهم أو ما يفعله هو كذلك وكيف يفعله ولم وهل كان جيدًا أم لا؟ والأهم أنه ما عاد يذكر الآن تخصصه؟ أو ما كانت عليه أحلامه؟ أو حتى اسمه! "صح.. إيش كان اسمي؟ محمد.. خالد .. منصور؟ وهل يناسب شكلي؟ .. ددققيققة كيف شكلي؟!!!" تواردت الأسئلة. أسئلة لم يفكر في طرحها أو يتوقع أصلًا وجودها، ولولا التك تك تك تك التي رفعت الرؤوس، لغرق فيها وأدرك أمورًا بعد عشرين عامًا في المكتب.
مع دقة الساعة في تمام الخامسة تمططت الأجساد من الكراسي المتصلبة وفرقعت الأصابع وسمع أخيرًا صوت دباسة ويد تبحث في الدرج وأقدام تلحق بالمصعد الذي أعلن وصوله. كان مازال واقفًا لا يدري ما يفعل أو يفكر فيه "أيش كنت أقول؟ هه!" ولم تمهله قدمه فرصة للتذكر -إن اعتقدنا إمكانية ذلك. في المصعد المحشور همس له أحدهم "مبروووك أخيرااا.. المهم بتلاقي اسمك ومعلوماتك في درج المكتب الأخير.. وحبه حبه لا تلحق بالموظف اللي قبلك .. أنت على طول عطيتها وقفة!" ولولا العطسة المتصنعة التي ألحقها بكلامه، لما تذكر شيئًا من يومه أو عزم البحث عن نفسه ورأس صاحبه غدًا!
بلقيس آل رقبه طالبة جامعية وقاصة من السعودية، حائزة على جائزة مبادرة أدب العزلة من هيئة الأدب والنشر والترجمة وجائزة مسابقة من كل بلد حكاية في زمن كورونا للأطفال من دار حدائق وأروى العربية والمركز الأول في قصص على الهواء من مجلة العربي الكويتية. نشرت قصصها في صحف ومجلات، مثل: مجلة العربية، مجلة سيدتي، مجلة زهرة الخليج. يمكن متابعة حسابها على منصة إكس @balmr18