top of page

حفنةٌ من طين

ريونوسكي أكوتاقاوا
ترجمة: ريم الرشيد
مراجعة: ميسرة عفيفي، طارق الشريف

فقدت أوسومي ابنَها نيتارو في مطلع موسم حصاد الشاي، ولقد ظلَّ ابنها في حياته ملازمًا للفراش مشلولًا، نحوَ ثماني سنوات. لم يكن موتُ ابنٍ كهذا مؤلمًا إلى ذلك الحدّ لأوسومي التي تُوصف بأنها امرأة تضع رجاءها في الحياة الأخرى، ولذا فإنَّها عندما كانت تحرق عود البخورِ أمام تابوت نيتارو، شعرتْ حينئذ بأن الروح قد تحرَّرتْ من ضيقها، كتحرُّر مَن اجتاز ممر أساهينا الوعِر.
عندما انتهت جنازة ابنها نيتارو، فإن أول مشكلة واجهتْها هو مصير كنّتها أوتامي. كان لأوتامي ولدٌ واحد، وإضافةً إلى ذلك فإنها كانت تحمل على عاتقها معظم أعمال الحقل بدلًا من زوجها نيتارو المشلول، ولكنها إذا خرجتْ الآن من البيت، فلن تستقيم المعيشةُ أبدًا، وستجد أوسومي نفسها غارقةً في مشكلة العناية بالطفل. وعلى أي حال، فقد فكرت أوسومي بأن على أوتامي أن تتزوج من جديد بعد الانتهاء من مراسم الأربعين، وبذلك ستظلّ تعملُ كما كانت في حياة ابنها نيتارو. كانت تفكر أيضًا بأن الزوج المناسب هو يوكِتشي، ابن خال نيتارو.
ولهذا السبب، اندهشت أوسومي دهشة كبيرة عندما رأتْ أوتامي توضِّب أغراضها في صباح اليوم التالي لمراسم الأسبوع الأول من وفاة نيتارو. في هذا الوقت كانت قد تركت حفيدها هيروجي يلعب في شرفة الغرفة الداخلية المطلِّة على حديقة المنزل، واللعبة التي كان يلعب بها، هي غصن ساكورا مزهِر، مختلَس من المدرسة.
أوتامي، أعتذر عن صمتي في الأيام السابقة، ولكن هل ستغادرين تاركةً الطفل وإياي، هنا وحدنا؟
قالت أوسومي ذلك بنبرة شاكية أكثر منها لائمة، ولكن أوتامي أجابتها بلهجةٍ مرحة دون أن تنظر إليها:
ما الذي تقولينه؟
اطمأنتْ حينئذٍ أوسومي وقالت: صحيح، لا يمكن أن تفعلي أمرًا كهذا.
ما زالت أوسومي تُعيد على نحوٍ ملحٍّ التماسَها ممزوجًا بالشكوى، وفي الوقت نفسه، أصبحت تشعرُ بانفعالٍ ما ينفكّ يزداد، تجاه كلماتها، ثم بدأت الدموعُ بالانهمار على وجنتيها المليئتين بالتجاعيد.
أرغب بالبقاء في المنزل ما دمتِ تريدين ذلك، ولديَّ هذا الطفل، ويستحيل أن أرحل هنا برغبتي...
انهمرت دموع أوتامي هي أيضًا، ثم حملت ابنها هيروجي على ركبتيها وضمتْه إليها، فأصيب هيروجي بحالةٍ من الحياء الغريب، وكان جلُّ اهتمامه منصبًّا على غصن الساكورا الملقى على حصير التاتامي القديم للغرفة الداخلية.
**
استمرت أوتامي تعمل دون أن تغيِّر شيئًا عما كانت عليه في حياة نيتارو، ولكن مسألة الزواج لم تُحسَم ببساطة كما خططتْ لها أوسومي. كان يبدو أن أوتامي لم تضمر أي اهتمام لهذه المسألة قطُّ. وبالطبع، كلما سنحت الفرصة لأوسومي، فإنها كانت مرةً تحاول بهدوء جذب انتباه أوتامي، ومرةً تُحدّثها بأسلوب صريح. ولكن أوتامي في كل مرة، تكتفي بأن تجيبها بلا مبالاةٍ: "ربما في يومٍ ما من السنة القادمة". وإذا كان هذا يسبِّب قلقا لأوسومي، فإنه بلا ريب يسبب لها ابتهاجًا أيضًا. وعلى أي حال، قررت أوسومي مع حرجها من الناس، أن تستجيب لقول كنتّها، وتنتظرَ قدوم العام الجديد.
ولكن عند حلول العام التالي، فإنَّ أوتامي مع ذلك لم تفكر بأي شيءٍ قطُّ غير الخروج إلى العمل في الحقل. بدأت أوسومي تحثها أكثرَ من قبل على مسألة الزواج، وتتوسَّل إليها، وذلك لأنها عانت من لوم الأقارب لها من جهة، ومِن غِيبة الناس من جهة أخرى.
ولكن يا أوتامي، حتى ولو كنتِ الآن شابّةً، لا يمكنك أن تبقي بلا رَجُل.
حتى لو كان ذلك غير ممكن، فلا حيلة لديَّ. أرجوك، لا تحاولي أن تدخلي رجلًا غريبًا إلى هذا البيت، فإذا فعلتِ فإن هيروجي سيصبح في حالٍ يُرثى لها، وأنت ستكونين مرتبكةً محرَجة، والأهم من ذلك أنّ روحي ستُرهَق إرهاقًا كبيرًا لا أستطيع تحمُّله.
لذلك تزوّجي بيوكتشي، لقد قال بأنَّه الآن قد انقطع عن القمار.
حتى ولو كان قريبًا لك، فهو يظلُّ غريبًا عني. لا أملك الآن إلا أن أصبر، وما ضيرُ الصبر؟
ولكنَّ ذلك الصبرَ ليس صبرَ سنةٍ أو سنتين.
لا بأس، فالأمر كلُّه من أجل هيروجي. إذا ظللت الآن أقاسي، فإن حقل الأرز هنا، سينتقل إلى ملكية هيروجي وحده، دون أن يرثه أحد آخر معه.
ولكن يا أوتامي، (عندما تصل أوسومي إلى هذه الموضع من حديثهما، فإنَّ بحةً سببُها جدّيةُ ما تقول، تلوّن صوتَها)، إن أقوال الناس مزعِجة، ولذا فإنّي أرجوك أن تقولي للناس ما قلتِه لي الآن، هو بذاته بلا أي تغيير.
لطالما تبادلا بينهما مثل هذا الحوار مراتٍ كثيرة، ولكنَّ عزمَ أوتامي كان يشتدُّ، ولم يبدُ قطُّ أنه قد ضعفَ. وفي الواقع أنَّ أوتامي كانت تحصد الحنطة، وتزرع البطاطا، دون مساعدة رجل، ولقد كانت تبذل قصارى جهدها في العمل أكثر من ذي قبل. ليس ذلك فحسب، وإنما اقتنت أيضًا بقرةً في الصيف لتربيتها، وكانت تخرج من أجلها لجزِّ العشب حتى في الأيام الممطرة. وأسلوب العمل الشاقِّ هذا، كان في ذاته اعتراضًا شديدًا، على ضم فرد آخر إلى العائلة، الآن وبعد كل هذا. لقد تخلت أوسومي في النهاية عن مسألة تزويجها، ومع ذلك فإنَّ تخليها عن ذلك، لم يكن مزعجًا لها حتمًا.
**
استمرت أوتامي وحدها في إعالة أسرتها، ولا شك أن ذلك سببُه أن ما تفعله هو من أجل ابنها هيروجي، ولكن أيضًا ومن ناحية أخرى، كان يبدو أن هناك صفاتٍ وراثيّةً راسخةً بجذورها الثابتة في أعماقها. كانت فتاةً أجنبية إذا صح التعبير، ابنةً لأحد الذين يُطلق عليهم "النازحين"، وهم ممن هاجرَ مِن مناطق جبليَّة مجدبة، إلى هنا، إلى هذه القرية. لقد سمعت أوسومي جارتها العجوز تقول لها مراتٍ عديدة: إن كنتَّك أوتامي لديها قوة لا تتناسب مع ملامح وجهها. منذ أيام رأيتُها، عندما مرَّتْ بي، تحمل على ظهرها في كل مرة أربع حزمٍ كبيرة من سنابل الأرز.
ولقد حاولت أوسومي أن تعبر بالعمل عن شكرها لأوتامي، فكانت تلاعب حفيدها، وترعى البقرة، وتطبخ الطعام، وتغسل الملابس، وتذهب إلى الجوار لإحضار الماء، ولم تكن أعمال البيت قليلة، ولكن أوسومي كانت تعمل راضيةً، وهي محنيَّة الظهر.
ذات خريفٍ وفي أول المساء، عادت أوتامي أخيرًا إلى المنزل، حاملةً بين يديها حزمة أغصان من شجر الصنوبر، كانت أوسومي تسخن حوض الاستحمام في زاوية الأرضيَّة الترابية الضيقة جدا، وهي ما تزال تحمل هيروجي على ظهرها.
الجو بارد جدا، لماذا تأخرت؟
عملتُ اليوم أكثر مما أعمله عادةً.
وضعت أوتامي حزمة أغصان الصنوبر أسفل حوض المطبخ، ثم ذهبت إلى جوار المدفأة الكبيرة دون أن تخلع حذاءها المصنوع من القش، المليء بالوحل. كان في الفرن جذر شجرة بلوط، يتوهّج لهبُه بالحمرة.
حاولت أوسومي أن تقوم بسرعة، ولكن ظهرها الذي تحمل عليه هيروجي لم يكن له أن يقف بسرعة ما لم تمسك بحافّة حوض الاستحمام.
هلّا أسرعتِ بالاستحمام؟
عليَّ أن آكل قبل أن أستحمّ. سآكل البطاطا أولا، لقد طبختِها، أليس كذلك؟
ذهبت أوسومي بخطوات مترنحة إلى حوض المطبخ، ثم عادت ومعها قِدر البطاطا الحلوة المسلوقة سلفًا، وعلقتْه بجانب الفرن.
مرَّ وقتٌ طويل منذ أن سلقتُها لك، لذا يبدو أنها قد بردتْ.
غرزت كلتاهما أسياخ الخيزران في البطاطا، وقربتاها معًا من لهيب المدفأة.
هيروجي ينام بعمق، من الأفضل أن تضعيه في فراشه.
اليوم شديد البرودة، لذا لا أظنه سيواصل النوم في الفراش.
وفي أثناء ذلك، بدأت أوتامي بالتهام البطاطا التي ينبعث منها الدخان. لقد كانت تلك طريقةَ أكلٍ لا يعرفها غيرُ الفلاح الذي يرهقه العمل طَوال يومه؛ تنزع أوتامي سيخ الخيزران من البطاطا، ثم تلتهمها في لقمةٍ واحدة. وواصلت أوسومي شويَ البطاطا بجهد، وهي تشعر بثقل هيروجي الذي يشخر أثناء نومه شخيرًا خفيفا.
على أي حال، مَن يعمل طوال اليوم قدر ما تعملين، لابد أن يجوع جوعًا مفرَطًا.
كانت أوسومي بين لحظة وأخرى، تصب نظراتها التي تفيض بالتبجيل والإعجاب على وجه كنَّتِها، لكن أوتامي كانت تلتهم بصمت البطاطا الحلوة التهامًا نهما، أمام وهجِ نار الفرن المغطاة بالسخام.
**
استمرت أوتامي تعمل عملَ الرجال دون ملل أو كلل، ففي بعض الأحيان كانت تدور ليلًا على ضوء القناديل، لتشذِّب النباتات، وتعتني بها بإزالة الزائد من الشتلات. ولقد كانت أوسومي تكنُّ دائمًا مشاعر الاحترام لأوتامي، لما لها من قوة وحيوية تتفوق بهما على الرجال، لا بل إنها كانت تكن لها مشاعر الخوف، أكثر مما هي مشاعر احترام. لقد كانت أوتامي تفرض على أوسومي كلَّ شيء ما عدا أعمال الجبل والحقل، وفي الفترة الأخيرة كانت نادرًا ما تغسِل مئزرها بنفسها، ومع ذلك ظلَّت أوسومي تعمل بأقصى ما أوتيت من جهد، وهي تفرد ظهرها المنحني من حينٍ إلى حين، دون أن تبدي أي شكوى. ليس ذلك فقط، بل كانت عندما تقابل بالمصادفة جارتها العجوز، تبالغ في مدح ما تقوم به كنّتها بوجهٍ جادٍّ، قائلةً: على أي حال، فإن ما تقوم به أوتامي لن يُدخل الشقاء إلى المنزل إذا ما متُّ يومًا.
غير أنَّ حمى الكسب عند أوتامي لم يكن سهلًا إشباعُها فيما يبدو، فعندما دخلتْ سنةٌ جديدة، بدأت أوتامي تقول حينئذ بأنها ستبسط يدها على حقل أشجار التوت الذي يقع في الجهة المقابلة من النهر، فأيًّا ما يكن، ووفقًا لما قالتْه، فإن عرضَ الحقل الذي تُقارب مساحتُه من نصف هكتار بعشرة ينات فقط للمستأجرين، هو بلا شكّ أمرٌ بالغُ الحمق، وبدلًا من ذلك، أنّنا إذا زرعناه أشجار توتٍ، وقمنا فيه على تربية دود القز في أوقات الفراغ، ما دام أنه لن يحدث تبدُّل في أسعار الحرير، أو أي انهيار لها، فلسوف نتمكّن من أن نحصل على أرباح تصل إلى مئةٍ وخمسين ينًّا في العام، ولكن أوسومي بغض النظر عن رغبتها في المال، لم تعد قادرةً على أن تعمل أكثر. ولقد ذهب الحديث عن تربية دود القز إلى أبعد مما ذهب إليه، فتربيته تستغرق وقتًا وجهدًا هائلين، وإذا بأوسومي تعترض في النهاية على فكرة أوتامي، اعتراضًا ممزوجًا بالشكوى، قائلةً لها:
اسمعي يا أوتامي! اعتراضي لا يعني بأنني أحاول الهرب من العمل، نعم لا أحاول الهرب منه، ولكن ليس معنا رجلٌ يساعدنا، ومعنا طفلٌ صغير، وفي مثل هذا الوضع يكون العبء ثقيلًا علينا مرهقًا لنا. هذا مستحيل، كيف نستطيع تربية دودة القز؟ أرجوك أن تفكري بوضعي أنا أيضًا ولو قليلًا!
عندما رأت أوتامي بكاء حماتها، لم تستطع أن تصرّ على رأيها، ورغم تخليها عن فكرة تربية دود القز، فقد فرضت بعنادٍ إرادتها في زرع أشجار التوت، وهمهمتْ وهي تنظر باستياء إلى أوسومي، بسخرية لاذعة، قائلةً: لا مانع لديك، أليس كذلك؟ إذ سينتهي الأمر بذهابي أنا وحدي للعمل في الحقل.
ومنذ ذلك الوقت بدأتْ أوسومي تعيد التفكير مرة أخرى في موضوع زواج أوتامي، لقد كانت في السابق تفكر بهذا الموضوع لقلقها على ظروفهم المعيشيّة، ومما سيقوله الناس. أما هذه المرة فقد بدأت تفكر به لرغبتِها في الإفلات من جحيم عمل البيت، ولهذا السبب بالتحديد؛ فإننا لا نستطيع أن نخمّن إلى أيّ مدى بلغت قوةُ رغبتها في تزويج أوتامي مقارنةً بالسابق.
وفي الوقت الذي يمتلئ حقل اليوسفي الخلفي بالأزهار، بدأت أوسومي الجالسة أمام المصباح بعرض هذه المسألة بلطف، وهي تنظر من خلف نظارتها الكبيرة الخاصة بالعمل الليلي، ولكن بينما أوتامي التي تجلس متربعةً عند المدفأة، تقضم من حبات البازلّاء المملحة، قالت دون أن تبدي أي استعداد للسماع: مسألة الزوج مرة أخرى! ليس لهذا الأمر أهميةٌ لديَّ.
كان هذا الرد وحدَه يجعل أوسومي سابقًا تتخلى عن المسألة، ويدفعها إلى الاستسلام، ولكن في هذه المرة تحديدًا، شرعتْ أوسومي بإقناع أوتامي بمثابرةٍ وصبر:
ولكن لا يمكن أن تستمري بقول ذلك، إن جنازة مياشتا غدًا، ولقد جاء دورنا للمشاركة في حفر القبر، ووقتٌ كهذا لا يوجد فيه معنا رجلٌ بالبيت...
اسمعي! أنا من سيذهب للمشاركة في حفر القبر.
هذا مستحيل! أنتِ، على الرغم من كونك امرأةً...
همّت أوسومي بأن تضحك عمدًا، ولكنها عندما رأت وجه أوتامي، بدا لها أن الحذر من مثل هذا الضحك أمرٌ ضروري.
ضمَّتْ أوتامي ركبتَيها إلى صدرها، بعد أن كانت تجلس متربعةً، ثم حذرتها ببرود قائلة:
أعتقد بأنك لا تفكرين بالتقاعد عن العمل، أليس كذلك؟
أصابتْها أوتامي في نقطةٍ حساسة لديها، فخلعت أوسومي نظارتها الكبيرة بلا وعيٍ، دون أن تدرك لأيِّ شيء خلعتها.
أوه، أنت! ما هذا الذي تقولينه؟
هل نسيتِ ما قلتِه عندما توفي والدُ هيروجي؟ وهو أنَّنا إذا قسمنا هذه الأرض، فلن نجد ما نعتذر به لأجدادنا!
نعم، ذلك ما قلتُه، ولكن إذا فكرنا في الأمر، فإنَّ لكل زمنٍ ظروفَه الخاصَّة به. وهذا مما لا مفرَّ منه.
استمرت أوسومي بكل ما أوتيتْ من جهد في الدفاع عن أمر وجود الرجل في البيت، ولكن على أية حالٍ لم يلقَ رأيُها صدًى معقولا ومقنعًا حتى في أذنيها هي نفسها، وذلك لأنه قبل كلِّ شيء لم تستطع أن تعرض ما يدور في ذهنها، أو بمعنى آخر لم تستطع أن تفصح جيدا عن رغبتها في الراحة من الأعباء. أمسكت أوتامي بنقطة ضعف حماتها، وأخذت توبِّخها بنبرة حادَّة، وهي تقضم على عادتها حبوب البازلاء المملَّحة، ولقد ساعدها في ذلك فصاحتُها الفطريّة التي لا تعرفها أوسومي.
الأمر لا يعنيك لأنك ستموتين أولًا، ولو كنتِ في مكاني، فلن تتحملي أن تقابلي مثل هذا العبوس دائمًا. مهما كان الأمر فلستُ أتفاخر بقوّتي على أن أظل عزباء طوال عمري، بل إنني أفكر بإمعان في كثير من الليالي التي لا أستطيع فيها النوم لألمٍ في مفاصلي، في أنه لا فائدةَ من أن أطيل عنادي الأحمق، لعدم جدواه، ولكنني أعيد التفكير مراتٍ ومرات في أن هذا الأمر سيكون من مصلحة العائلة، ومن أجل ابني هيروجي، وأستمر في فعل ما أفعله مجبرةً عليه.
ظلَّت أوسومي تحدق في وجه كنّتها بذهول، وفي آخر الأمر، أخذ عقلها يستوعب إحدى الحقائق استيعابًا واضحا. وهذه الحقيقةُ هي أنها مهما حاولت الصراع مع كنتّها، فلن تستريح أبدًا من عبء العمل إلى أن تموت. بعد أن أنهت أوتامي حديثها وضعت أوسومي نظارتها الكبيرة من جديد على عينيها، وأنهت هذه الحوارَ وكأنها تناجي نفسها:
ولكن يا أوتامي، هذه الحياة لا تسير بالمنطق وحده. فكري جيدًا بالأمر، لأنني لن أتحدث بعد الآن عن ذلك أبدًا.
بعد فترة قصيرة، مرَّ بالبيت في هدوءٍ شابٌّ من القرية، وهو يغنّي بصوتٍ رخيم: «هل ستخرج الأرملة الشابة اليومَ لجزِّ العشب؟ أيها العشب؛ تمايلْ، بل قفْ ساكنًا!»()
عندما ابتعد صوتُ الغناء، حدقت أوسومي من جديد في وجهِ أوتامي من خلف نظارتها الكبيرة، ولكن أوتامي كانت تتثاءب فقط وهي باسطةٌ رجليها أمام المصباح.
لننم الآن، فسنستيقظ في الصباح الباكر.
عندما قالت أوتامي ذلك، أخذت حفنةً من البازلاء المملحة، ثم قامت في تثاقل من عند المدفأة.
**
منذ ذلك الحين، ولمدة ثلاث أو أربع سنوات، استمرت أوسومي في تحمّل معاناتها بصمت، كانت هذه المعاناة إذا جاز التعبير، أشبه بمعاناة حصان عجوز، رُبط بحصان آخر حَرون في نيرٍ واحد. أما أوتامي فقد ظلَّت مستغرقةً في أعمال الحقل بجهد خارجَ البيت، وظلت أوسومي في نظر الآخرين، تعمل ربةَ بيت بمثابرةٍ واجتهاد كعادتها، ولكنْ ظلالُ سوطٍ لا يُرى، ظلَّت تُهدِّدها بلا انقطاع. ففي بعض الأحيان التي لا تُسخِّن فيها ماء الاستحمام، أو تنسى أن تجفف حبوب الأرز، أو تترك البقرة طليقةً، فإنَّ أوتامي المتجبِّرةُ، غالبًا ما توبخها بجلافةٍ وبسخرية لاذعة، لكنَّ أوسومي كانت تستمر في تحمل الألم بثبات وصمتٍ تام، فمن ناحية كان لديها روحٌ ألفت الإذعان، ومن ناحية أخرى كان حفيدها هيروجي متعلِّقًا بها تعلقا مفرطا أكثر من تعلقه بأمه.
لم تتغير أوسومي في الواقع وفي نظر الناس، عما كانت عليه من قبل، ولو افترضنا أنها تغيرت قليلا، فذلك التغير يكمن في أنها لم تعد تمدح كنّتها كما كانت في السابق، ومع ذلك، فتغير تافه كهذا لا يلفت إليه نظرَ أحد، وكانت في نظر جارتها العجوز -على الأقل- هي نفسها أوسومي التي تضع رجاءها في الحياة الأخرى.
ذات صيف، وفي منتصف الظهيرة، والشمسُ في كبد السماء، كانت أوسومي تتحدث مع جارتها العجوز، تحت أوراق تعريشة العنب التي تغطي واجهة المستودع. لا يُسمع في الجوار أي صوت، غير صوت الذباب في زريبة البقر، وكانت الجارة العجوز تدخن سيجارة قصيرة وهي تتحدث، وهذه السيجارة هي بقايا سجائر ابنها التي حرصت على جمع أعقابه بعناية وحرص.
أوتامي؟ هِمْ، تقولين إنها تجزُّ التبن؟ لا بأس هي ما تزال شابّة، وتستطيع عمل أي شيء.
كيف للمرأة أن تخرج خارجَ المنزل؟ أعمال البيت هي الأنسب، والأكثر ملائمةً لها.
لا، إنها تحب العمل في الحقل أكثر من غيره. كنّتي منذ زواجها، أي منذ سبع سنوات، لم يسبق لها أن خرجت يومًا واحدا إلى الحقل لجز الأعشاب الضارة، ناهيك عن العمل في الحقل، بل تقضي اليوم الطويل كله في غسل ملابس الصغار أو إصلاح ملابسها فقط، وهذا شأنُها كلَّ يوم.
هكذا عليها أن تكون، فإنَّ جعل مظهر الصغار حسنًا، وأن تصبح هي نفسها نظيفة وجميلة، لهو زينة هذه الحياة.
ولكن شابات هذه الأيام يكرهون أعمال الحقل... أوه ما هذا الصوت؟
أي صوت؟ هذا ريح البقرة.
ريح البقرة؟ هكذا إذن... المهم، منطقي أن يكرهوا هذه الأعمال، فتعرُّضُ الظهر للشمس الحارقة، وجز العشب الضار من الدخن الآسيوي، أمر قاسٍ في عمر الشباب.
هكذا كانت العجوزان تتحاوران معًا في تناغمٍ وسلام بينهما.
**
استمرت أوتامي وحدها في إعالة الأسرة أكثرَ من ثماني سنوات، أي منذ موت نيتارو، فذاع صيتها آخر الأمر، خارج القرية. لم تعد أوتامي تلك الأرملة الشابة المصابة بهوس كسب المال، والتي تصل ليلها بنهارها في العمل، ناهيك أنها لم تعد أيضا الأرملة الشابة في عيون شباب القرية.
لقد أصبحت النموذج المثالي للزوجات، ومثالَ المرأة الفاضلة لشابات هذا المجتمع، بل إلى درجة أن غدت جملةُ "انظرن إلى السيدة أوتامي في الجهة الأخرى من الوادي، وتعلمن منها!" تنطلق من أفواه الجميع عند توبيخ الزوجات. لم تعد أوسومي قادرةً على أن تشكو عذابها حتى إلى جارتها العجوز، بل لم تفكر حتى بالرغبة في الشكوى، غير أنها في أعماق قلبها كانت تعوّل على عدالة السماء، وإن كانت لا تدرك ذلك بوضوح، حتى أصبح ذلك آخرَ الأمر كفقاعةِ ماء، والآن لم يعد لديها شيء تعول عليه غير حفيدها هيروجي، أصبحت تركز حبها المستميت على حفيدها الذي صار بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وحتى هذا الوتد الأخير قد بدا لها أنه سينهار في أية لحظة.
بعد ظهر أحد الأيام الخريفية الصحوة، عاد هيروجي من المدرسة عجلًا، وبيديه حقيبة كتبه، وكانت أوسومي تستعمل السكين بمهارة في إعداد ثمار الكاكا للتجفيف، وهي أمام المستودع مباشرةً. عندما قفز هيروجي برشاقة على الحصير الذي يُجفَّف عليه أرز الدخن الآسيوي، ثم عدّل ساقيه بدقة، ألقى التحية على جدته رافعًا لها يده، ثم سألها بجدٍّ بلا مقدمات:
جدتي، هل أمي امرأة عظيمة جدا؟
لماذا؟
لم تستطع أوسومي بينما تريح السكين في راحة يدها، إلا أن تحدق في وجه حفيدها.
لأن الأستاذ قال ذلك في مادة الأخلاق: "إن أم هيروجي امرأة عظيمة، ولا مثيل لها في كل القرى المجاورة".
الأستاذ قال ذلك؟
نعم، الأستاذ قال ذلك، هل هذه كذبة؟
اضطربت أوسومي أولًا، كيف يستطيع الأستاذ أيضا أن يلقن حفيدها كذبة كبيرة مثل تلك، في الواقع أنه لا صدمة أكبر من هذه لأوسومي، ولكن بعد هذا الاضطراب اللحظي بدأت أوسومي التي استولى الغضب والاهتياج عليها وكأنها إنسان آخر، تصب اللعنات على أوتامي.
نعم، إن هذه كذبة، بل كذبة كبيرة! أمك تعمل في الخارج كثيرًا، ولذا فهي أمام الناس شخص عظيم ورائع، ولكنها تحمل في الداخل قلبًا أسودَ، تتعقبني دائمًا بالأعمال الشاقة، وقاسية معي.
حدق هيروجي في جدته التي تغير لونها، وهو مندهش تماما. وأثناء ذلك بدأت دموع أوسومي -ربما بسبب رد فعلي عكسي- تنسكب فجأة.
لذا فإنك جدتك هذه تعيش معتمدةً عليك وحدك، لا تنس هذا، وإذا ما بلغت السابعة عشرة فأرجو أن تتزوج من فورك، وتجعل جدتك حينئذ تستريح. تقول أمك برحابة بال: "عليك أن تنتظر حتى تنتهي من التجنيد"، لكن كيف، كيف يمكنني أن أصبر؟ هل تسمعني؟ يجب أن تبرَّ بجدتك، وبرك بي عن اثنين، عنك وعن أبيك، فإذا فعلتَ ذلك، فلن تجد من جدتك أية إساءة لك، وستعطيك ما تريده.
حتى إذا نضجت هذه الكاكا، فهل ستعطيني إياها؟
كان هيروجي يلمس الكاكا التي كانت في السلة، ورغبته فيها باديةٌ عليه.
أوه سأعطيك إياها. وأنت، حتى لو لم تبلغ بعد، فإنك تدرك الكثير، احرص على أن لا تفقد طبيعتك هذه أبدًا.
بكت أوسومي كثيرا، ثم أخذت تضحك ضحكًا مشوبا بالشهيق.
في الليلة التالية من وقوع هذا الحدث تشاجرت أوسومي شجارًا عنيفًا مع أوتامي، لسبب تافه. كان هذا السبب هو أن أوسومي أكلت البطاطا التي ستأكلها أوتامي، ولكن مع تزايد الجدال، قالت أوتامي بضحكةٍ ساخرة:
إذا كنت تكرهين العمل، فليس لك من حلٍّ غير الموت.
وعندها أخذت أوسومي تصرخ كالمجنون، في حالةٍ لا تتلاءم مع طبيعتها، وفي هذه اللحظة تماما؛ كان هيروجي حفيدها نائما نومًا هادئا منذ فترة، وقد اتخذ من حجر جدته وسادةً له، ولكن أوسومي بعد أن أيقظت حفيدها وهي تهزّه وتقول له: هيرو، هيا استيقظ! استمرت في ثورتها فترةً طويلة.
هيرو، هيا استيقظ! هيرو، استيقظ! اسمع ما تقوله أمك لي! تقول لي "موتي"! اسمع جيدا! نعم مع أمك زادت الأموال قليلًا، ولكن أرضنا هذه التي تبلغ 1.3 هكتار قد استصلحتُها أنا وجدك، نحن الاثنان فقط، ماذا تقول؟ أمكَ تقول لي إذا أردتِ الراحة، فليس لك من مخرجٍ غير الموت. أوتامي، نعم سأموت، فأي شيء أخافه من الموت؟ لا لن أتلقى منك أي تعليمات. نعم سأموت، ومهما كان فالموت آتٍ، وعندما أموت، فتصير روحي لعنةً عليك.
كانت أوسومي قد احتضنت حفيدها الذي أجهش بالبكاء، وهي مستمرِّةٌ في ثورتها على أوتامي بصوت عالٍ. ولكن أوتامي اكتفت بالاستلقاء إلى جانب المدفأة كعادتها، وتظاهرت بأنها لا تسمع شيئا.
**
ولكن أوسومي لم تمت، وبدلا من ذلك، أصيبت أوتامي المتفاخرة بصحّتها بحمى التيفوئيد في منتصف العام التالي، ثم ماتت، في اليوم الثامن من إصابتها بالمرض. إنَّ عدد المصابين آنذاك بحمى التيفوئيد في تلك القرية الصغيرة لم يكن قليلا، بل كانت أوتامي قبل أن تمرض، مشاركةً في حفر قبر حداد مات بسبب هذه الحمى أيضًا، وبقي للحداد تابع صغير نُقل إلى مستشفى العزل أخيرًا، في يوم الجنازة نفسه. بعد مغادرة الطبيب لمّحت أوسومي لأوتامي التي احمر وجهها مرضًا، ببعض الانتقادات، من قبيل: "لا شك أنك أصبت بالعدوى وقتَ دفن الحداد".
كان المطر يهطِل في يوم جنازة أوتامي، ولكن الناس في القرية، ومعهم العمدة، قد شاركوا جميعًا في جنازتها، وكل من حضر جنازتها أسفوا على أوتامي التي ماتت شابّة، وأشفقوا على أوسومي وهيروجي اللذين فقدا المعيل الهامّ لهما، لاسيّما أن نائب العمدة تحدث عن أنه كان من المفترض أن تُكرِّم بلديةُ الإقليم أوتامي في أقرب وقت لاجتهادها في العمل، ولم تستطع أوسومي أمام هذا الكلام إلا أن تنكس رأسها، فأضاف نائب العمدة الطيّب ذو الرأس الأصلع، إلى كلامه مازحًا:
علينا أن نستسلم قائلين: إنه القضاء والقدر.. بخصوص تكريم أوتامي، لقد بذلنا نحن أيضًا في العام الماضي جهودًا كبيرة، أرسلنا ملتمسًا إلى بلدية الإقليم، وذهبتُ أنا والعمدة للقاء رئيس الإقليم خمس مرات، متحملَين أجرة القطار في كل مرة، ولم يكن بذل المجهود سهلًا، ولكننا استسلمنا للقدر، وعليك أنتِ أن تستسلمي أيضًا.
وفي أثناء مزاحه هذا، كان ينظر إليه شزرا معلِّمٌ شاب، معربًا بذلك عن استيائه.
في الليلة التي انتهت فيها جنازةُ أوتامي، دخلت أوسومي مع هيروجي في ناموسيّة واحدة، كانت موجودة في زاوية الغرفة الداخلية التي يقع فيها المذبح البوذيّ للبيت. كان كلاهما عادةً ينام وسط ظلام دامس، ولكن في هذه الليلة كانت شموع المذبح ما تزال مضاءة. ويبدو أن حتى رائحة المعقِّم الغريبة أخذت تتغلغل داخل الحصير القديم. وبسبب كل هذا لم تستطع أوسومي فترةً طويلة أن تنام بسهولة. لا شك أن وفاة أوتامي جلبت لها سعادة كبيرة، وأنه لم يعد عليها أن تعمل بعد الآن، ولا قلق عليها من أي تذمر أو توبيخ يوجّه إليها، ومدخرات الأسرة تبلغ ثلاثة آلاف ين، ولديهم حقل بمساحة 1.3 هكتار، ولها الحرية المطلقة في أن تتناول الرز مع حفيدها كل يوم، بل لها أيضًا الحرية المطلقة في أن تشتري سمك السلمون المملح -وهو طعامها المفضل- بالجملة في سلة كاملة. لم تشعر طوال حياتها بالارتياح إلى هذه الدرجة. بالارتياح إلى هذه الدرجة؟ ولكن الذاكرة توقِظ في نفسها بوضوح ذكرى أحداث تلك الليلة قبل تسع سنين. إذا تحدثنا عن الارتياح، فإنها قد شعرتْ في تلك الليلة التي انتهت فيها جنازةُ ابنها، بما شعرت به الآن أيضًا من راحة بلا أي تغيير كبير، وهذه الليلة؟ لقد انتهت فيها جنازة كنتها التي أنجبت لها حفيدها الوحيد.
فتحت أوسومي عينيها من غير إرادتها، وكان حفيدها إلى جانبها موجِّهًا وجهه النائم البريء إلى السقف، وبينما تنظر أوسومي إلى هذا الوجه النائم، بدأت تشعر تدريجيا بأن إنسانًا مثلها، إنسانٌ مخزٍ، وبأنَّ أوتامي كنّتها، ونيتارو ولدها اللذين كانت علاقتهما بها سيئة، هما أيضًا إنسانان مخزيان، وهذا التبدل سرعان ما جرف معه مشاعر الغضب والكراهية التي دامت تسع سنوات. لا، بل لقد جرف معه سعادةَ المستقبل التي كانت عزاءها في الحياة. كان الأم والابن والكنّة الثلاثة جميعُهم، أناسًا مخزين، ولكنها الوحيدة من بينهم الأكثر خزيًا، باستمرارها في هذه الحياة المخجلة، فوجّهت حديثها بلا وعي منها إلى الميتة، قائلةً: لماذا متِّ يا أوتامي؟ وعندها بدأت دموعُها بالانسكاب قطرةً فقطرةً وبلا توقّف.
بعد حلول الساعة الرابعة، نامت أوسومي نومَ المرهَق أخيرًا، وفوق هذا البيت المصنوعِ سقفُه من القشّ، بدأت السماءُ باستقبال أول خيوط الفجر بلا مبالاةٍ.

 
ريونوسكي أكوتاقاوا كان كاتبًا بارزا في فترة تايشو (1912 - 1926) ويُعرف بأنه "أبو القصة القصيرة اليابانية الحديثة". تأثر بالأدب الغربي والياباني الكلاسيكي، وكتب بأسلوب دقيق ومكثّف. معظم مواضيعه تدور حول الطبيعة البشرية والانهيار النفسي. من أعماله البارزة: "راشومون"، "داخل غابة." انتحر عام 1927، وأطلق بعد ذلك اسمه على جائزة أكوتاقاوا، التي تمنح للأدباء اليابانيين الشباب.

ريم الرشيد، حاصلة على ماجستير أدب ونقد، متخصصة بالأدب العربي واللغة اليابانية، وتعمل حاليًا كاتبةَ محتوى. يمكن متابعة حسابها على منصة إكس shouchikubai95@

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page