top of page

ميتٌ.. لم يمت بعد

ماجد الحطاب


تقول أمي: "الشيطان يعبث به ليلاً، ويغدو هكذا صباحاً" أما والدي فيظن أن مومسًا وراء بلائي. وما زالت تزعم أختي الكبرى أن "عينًا" قلبتني رأساً على عقب، لا تنفك التفاسير عن التعدد والتولّد، خاصةً إذا اجتمعوا في صالة المنزل بعد العصر، أوجههم مكفهرة وألبابهم حائرة، وما هي إلا لحظات من الصمت حتى يتسالبون أهداب الاحتمالات، ثم يتنهدون نهاية الجلسة حين يتفكرون في مصيبة تغيّبي عن العمل أسبوعاً بلا عذر، في حين أنني مسجى على سريري، فاغراً فاهيًا، مسبلاً عيني، وجهي منتفخ وعيناي متضائلتان، ذلك أن قبل يومين ابتلعت خمسًا وعشرين حبة دواء.
قبل اندلاق الحبوب في جوفي، كنت أفتر يوماً بعد يوم، سيما عملي محرراً في جريدة بات كابوساً لي، فمهاراتي ضعفت ومقتُ زملائي ومديري، أما بقية يومي فأقضيه متخشباً على السرير، حتى بلغ بي الأسى أن تمكن مني، ورأيتني فاشلاً في كل شيء.
طرأ علي آنئذ أن أدعو بدرية إلى سمرة معي، أحث بها المعنى الذي بيننا، لعل أنفاسها الحارة تدب فيَّ الحياة، وقبلاتها التي تطبع على وجنتي حمرة شفاهها تلوّن عالمي.. وسأطلب منها حك ذقني، ومعانقتي طويلاً، والهمس في أذني، وتقبيل عنقي، وسأرجوها لتتحدث لي عن أيامها، وتروي لي حكاياتها، ثم سأستغل حسن إصغائها وأبوح، وبعدئذ أكون بلغت علتي وأدركتها، فأرحل من عندها مسروراً منشرح الأسارير.
رضت الحسناء أن تلتقيني في الفندق الليلة، وقد اعتدنا على الالتقاء لنتوارى عن الأنظار ونختلي ببعض، وقد سارعت إلى حجز حجرة نالت اعجابنا مسبقاً، أرائكها مريحة وسريرها وثير..
وبمجرد ما اقترب الموعد تهندمت وتطيّبت، وغادرت حجرتي وأنظار العائلة تشيّعني باستغراب، إنهم يبصرون تسارع خطواتي، وبسمة انقشعت جرائها كآبتي. ضج المنزل آنئذ باستنكار إزاء تحولي المفاجئ. وعندما رحلت التقت أمي بأختي، وراحوا يتكلمون عن مظهري ووجهي الجذل، ثم أن أمي تدفقت السعادة في عروقها زاعمة أن شقائي انتهى وقد أقبلتْ على الحياة مجدداً، وأخذت تحادث أبي بالهاتف، وتشرح له مشيتي، وتقاطيع ملامحي، وأختي تفشل في كل مرة تحاول الحد من هذيانها، الذي آل بها إلى المطبخ لطهي الكبسة غداءً لنا، ولكونها وجبة أحبها ابتغت بها الاحتفاء بي.
استقلت القطار لأخذي إلى الفندق حيث ألتقي بدرية.. المرأة التي عرفتها قبل ست سنوات فأحببنا بعض كما يخيل لي. حينذاك اكتظ القطار بالعائدين من العمل إلى منازلهم، وقد أغاظني هذا المشهد، وأنا واقف إثر امتلاء المقاعد بمنهكين لا يقوون على رفع رؤوسهم. فيما كنت عاجزًا عن العمل، أفشل في كل مرة أخطّ بها تقريراً أرى بسببه الامتعاض على وجه مديري، إني لست المحرر الذي استقطبه في بادئ الأمر، مما جعله مؤخراً يتحدث عن استغناء الجريدة عن بعض الموظفين.
استعدت مزاجي وأنا متمدد على أريكة الحجرة وأنتظر، واثقاً من أن لقائي ببدرية عقاراً سأبتلعه وأعود كما عهدوني الناس.. غير أن نصف ساعة مضت لم يطرق الباب، وصبري نفد وضاقت بي الحجرة ذرعاً. إن الانتظار يستلب حيويتي الأخيرة ويبث فيّ القلق، فاتصلت بها، والفاجعة أنها أجابتني بلهجة قاسية لم أعتدها، بدّدت فرحي وأحيت شقائي، وحالاً جلست على الأريكة لأمسك زمام اتزاني، وما لبثتْ أن صفعتني من وراء هاتفها، بإخباري معلومة خيّبت أملي وجعلتني بائساً أكثر من ذي قبل، فقد قالت:
لن آتي اليوم، ولن آتي أبداً
ماذا تقصدين؟ لا تتقاعسي عن مقابلتي رجاءً، يكفي ما أعانيه، هل يرضيك أن أعود إلى المنزل ثم أنعزل في حجرتي؟، وأنتِ تعرفين أن لا سلوان لي إلا أنتِ.. إنك تعلمين مقدار محبتك عندي، وأنك معجزة إلهية، ولكنك أحياناً تكونين شيطاناً أعوذ بالله منه، أخبرك عن تخبطي وتيهي وتجيبني هكذا؟
هل انتهيت؟
نعم
تنهدتْ وأكملتْ:
منذ تعرفنا كنت صريحة معك.. وقلت لك بأن ما بيننا لا يتعدى الصداقة.. صحيح؟
نعم، ورغم ذلك لم أتفق معك، إنها صداقة يمتزج فيها الحب، وتختلط بها عواطفنا.. ما معنى قبلاتك على شفاهي؟ وبوحك عن أسرار حياتك، وقضاءك معي سنوات تعودين فيها إلي بعد تخاصمنا غير مرة، هناك شيء بيننا تجهلينه، والمهم الآن أن هذا ليس محل اهتمامنا، فأنا مضطرب، روحي منهكة يا بدرية، أتعين ذلك؟
ما يهمني أنني أعلمتك الحقيقة منذ سنوات، وأبيت ألا تفهمها، وكثيراً حاولت تصحيح أفكارك، لم أعدك بشيء وتخلفت عنه.
هذا الحديث لا يهمني الآن، أيمكن أن نتحدث عني؟
ليس لدي وقت، اليوم عقد قراني، وددت مقابلتك وقول ذلك لك، إن مخططات حياتي لا أرسمها دائماً، وجدت نفسي مخطوبة الأسبوع المنصرم، بعدما رأيته وأُعجبت به..
وأنا؟
ماذا عنك؟ أتتذكر قبل ست سنوات، في إحدى الفنادق، أعلمتك أن صداقتنا نبيلة وستظل كذلك إلى أن يأتي يومها، لكل شيء نهاية
عداكِ! كيف.. كيف؟ وأنا.. أنا يا بدرية
هذيت كثيراً، وأنهت الاتصال حين بدأت أصرخ، وأبكي.. وقد قالت كلاماً خلال هذياني، مثل "أنت أحمق" و "أنت من جعلت نفسك هكذا،" ونسيت باقي حديثها، لأنني كنت منشغلاً بالصراخ والبكاء في آن، وعندما رحت أكتب لها رسالة وجدتها قد حظرتني، ولم يعد هنالك سبيلاً إليها.
تحت رزح هذه الكارثة، استسلمت، لأنه يصعب مجابهة هذه المشاعر، وركضت إلى الصيدلية واشتريت حبوبًا منوّمة. لم أكن أفكر في شيء، عدا الخلاص مما في صدري، أردت الحرية بترك كل شيء، ما هون ذلك القرار الذي لم أبذل فيه طاقة، أن الراحة ستتلقفني، وسأكون مطمئن البال، لا شيء أنتظره.. ولا شيء ينتظرني، لأغفو وأرتاح من هذا العناء، فليس علي أخيراً مشقة التفكير في شيء، وبعد سويعات يُزاح الثقل من على كاهلي.. ابتلعت جميع الحبوب في الفندق ثم مضت دقائق وغشاني النعاس، وهي ألذ لحظة في حياتي، أحسست بخفة في روحي، وبسكينة تتفشى فيّ.
بعد شهر من هذه الليلة، غدت مدعاة لضحكي، إذ فشلت حتى في الأفول.
فهمت لاحقاً أني لم أرد على اتصالات موظف الفندق لأخرج من الحجرة في ظهيرة اليوم التالي، وهذا ما برر اقتحامه للحجرة ورؤيتي فاقد الوعي، وأخيراً اتصل بالإسعاف.

ماجد الحطاب هو قاص ومحرر سعودي، يمكن متابعة حسابه على منصة إكس @HatabMajed

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page