بعيدًا عن المَرايَا
نجوى العتيبي
تقف الفتاة ذات الاثني عشر ربيعا أمام المرآة كأمس وما قبله والعام الماضي، تتأمَّلُ مختالة بنفسها، تتحدَّى من حولها بطول قامتها، لكنها ما تزال قصيرة على أحلامها البسيطة.
تلتقط صورةً ثم تحذفها؛ لأنَّ العجب العُجاب في ظلِّ الوحدة لا يلائمها. تتخيل أنَّ لها صديقات يُحِطنَ بها. تدفعُ الصورةَ عن مخيلتها لأنها ليست تلك الفتاة، ثم تقتحمها الصورةُ بفجاجة في الوقفة ذاتها. تنصاعُ إلى المخيّلة محاوِلَةً تحديد هيئاتهن ومن ستكونُ بينهن في قلب الصورة. ستجعل نفسها في القلب كل مرة، (في القلب) لأنها تبحث عنه.
تتفجَّرُ أسئلتها الحسَّاسة عن (الآخر)، تريد أن تفهمَ أين تقفُ منهُ بالضبط. تسأل عن الصور والتقاطاتِ المناسَبَات التي يحظى بها الآخرون بينما تُحرَم منها. تدرِكُ عميقا أنَّ الصورَ مرآةٌ مغايرة لاكتشاف الذات، ولذلك تتكرَّرُ الأسئلةُ تكرُّرَ المرايا بلا ملل…
تسألُ كطفلةٍ في الرابعة تفضِّلُ قصةَ الأمس وما قبله… تفضِّلُ القصة نفسها، تحبُّ الاطمئنان اليومي على سير الأحداث وحياة الشخصيات، تحرس الحكاياتِ بحبّ وانتماء لتبادُلِ العيشِ بينهما، تعيش القصةَ والقصةُ تعيشها… بينما تودُّ طفلةُ العام الثاني عشر لو أنَّ الأجوبةَ والقصة نفسها تتغيَّرُ، حراسةٌ بالعكس لتَبَدُّلِِ الحاجات… نحرُسُ ما بالداخل حين نهيم به، وما بالخارج حين نفتقدُ إليه. بوابةُ الذات مرة أخرى متيقِّظةٌ كما تفعلُ بها عند المرآة، وستسألُ الطفلةُ الكبيرة عن جدوى الأصدقاء دائما لتعيشَ قصصَ الآخرين؛ أولئك الذين يحتفون بمن يعرفونه حدَّ امتلاك صُوَرِهِ، أما هي فتمتلك صورًا شخصية للوحْدة لا غير.
التصاقها بوالدتها جعلها تحسب أنها تملك ما لها من شقيقات وصديقات، بينما الحقيقة بعيدة عن ذلك، حتى حسبت خالاتها أخواتها.
هنَّ بدورهن يُحمِّلنَ قربَ المسافةِ بينهنَّ والطفلة المسؤوليَّـةَ، يتَّهمن المسافة مرارا بعرقلة صداقتها لغيرها، وتهتم بآرائهنّ. يَنسَينَ سنّها الصغير أحيانا، طولها متورّطٌ بوهْمِهِنَّ مذ تجاوزتْ قاماتهنّ، وسيطلبن منها مرارًا أنْ تكفَّ عن النمو حتى تجد صديقةً واحدة على الأقل!
تضحك الطفلةُ الكبيرة من ذلك، ولكنّها مزحة تنبش موضعا مفتوحا للألم. ثمة مداعبات بمثابة الملح على الجراح، ولعنةُ الأشياء تأبى جودَتها في نفسها، بل حتى في موضعها… هكذا يؤذي المزاحُ…
حصولها على صديقةٍ صار أمرا محرجا مع مرور الوقت؛ فقد دمَّرتْ الجائحةُ فرصَ التقائها بهن في الوقت المناسب. تخبرُها إحدى الخالات بشيء من التعالي أو الوهم قائلةً: «الصديق حين يقبل ستعرفينه. لا مجال للاقتراع قبل ذلك، ولا مجال للانسحاب بعده».
تستقبلُ الطفلةُ الكبيرة كلماتِ الخالة الأخت كمتلقٍّ محشور في كرسيِّهِ داخل سينما الرعب، لو انتفضَ قائما وقاطَعَ الهدوءَ لصار هو موضوعَ الرعبِ نفسه. تكملُ الخالة/الأخت فلسفتها حول الصديق: «يأتي الصديق (كاملا) كما لا يأتي أحدٌ، ويرحل كاملا أيضا إن رحَلَ. هو الظلُّ إلا إنه مستوطِنٌ في الداخل، لا تابعا ضوئيا لشيء أقوى يقبع خارِجًا. الصديقُ ظِلٌّ بديع يمكِّنكِ من التقاط صورته معك. ستشرقين في تلك الصورة على فكرة!»
تعرفُ الخالةُ/الأخت أنَّ الصورَ أكثر ما يقلق تلك الطفلة… ثم تستدرِكُ عباراتها بعد أن ترى عينيّ الدهشة تلتهمان ملامح الطفلة الكبيرة، توشكُ الأخيرة أن تفهم خطورةَ الأصدقاء لا خطورة الحياة بلا أصدقاء كما أرادت الخالة. ستحاول الخالة إعادة شرح الكلام، وستظلّ الطفلة خائفة من الموضوع… لا تسمع الطفلة النصائح، لم تعد قادرة على فهمها وسماعها، فالأمر يفوق تجاربها…
تُكرِّرُ القصةَ نفسَها بالأسئلة عينها في السوق وفي المطعم والمشافي والطرق، لا تريد نصائح، بل أسئلة تتعقب من خلالها الموجود لا ما سيُوجَد! تسأل عن الرفيقات لو كُنَّ معها، تتخيل تعليقاتهن، وستُلبسُهُنَّ وجوهَ العابرين مؤقتا. إنها تعيش القصةَ يوميا كما يدور في مخيلة فتاة الرابعة.
نصائح القراءة كذلك لا تنفع ها هنا. ختْمُ كتاب (الصداقة والصديق) أيضا لا يفيد؛ فتجارب الآخرين تحتاج لِـمَعيَّةِ ألمٍ هائل كي تعبرَ طريقَها من الأقلام والمحابر. الحواسّ تحتـاج إلى المشـاعـر المتناقضة التي تولِّدُها التجارب الشخصية؛ الألم والحنوّ والاحتقار والحب والامتنان… وكثير من المواقف التي تكشف وجه الصديق.
عوامل الزمن والتعرية أيضا ليست حاسمة مهما تحدثت الخالةُ/الأخت عنها. غربالُ الأفراح والأحزان والمصائب والمواقف المتكلفة والأقنعة؛ تفحصها الخبرة وما تستكين إليه النفس، ولا يفيها الإخبارُ حقًّا.
أخبرتْها الخالةُ/الأخت عمن أطلقتْ عليهم قديما لفظ (أصدقاء)… قالت عنهم: (أصدقاء). وعبارة (قالت عنهم) تغني عن التفاصيل. القول يختلف عن الفعل أحيانا، فمساحات اللعب بالألسنة أكثر تهيُّؤا للخديعة، ومسافات الوقوع في شركها أجدر بالفرص. ولن تفهم الطفلة…
ستحاول الخالة/الأخت إقناعها… ستذكِّرها بالجائحة، ستعيد سرد التفاصيل على مسامعها، تخبرها بالمزيد عن المسافات التي فرضتْها الجائحة، ستقول إنها لم تقلِّلْ اقترابَنا ممن نحب مطلقا، بل أخذتْ غيرَهم ممن حسبوا القرب وجودا أبديا. ستقيس على المثال قائلة: «هذه المسافة غير مطروحة في الصداقة الحقيقية وإنْ رتَّبتْها العربيةُ في رتبٍ وميَّزتها بالألفاظ؛ فاثنتا عشرة كلمة أو أكثر عاجزة عن نقل خبراتنا وارتياحنا لما نسميه (صديقا)، وتسميةُ غيرِهِ بذلك لن تجعله صديقا؛ ذلك الذي سيهرب مع أول جائحة». تسألُ الطفلة الكبيرة عن تلك الألفاظ العديدة، وتعترض الخالة على مسائل التعداد الشكلية، تكملُ قائلة: «مهما كانت فلن توفي ما نعرف به الصديقَ حين يُقبِل».
ولا يمكن فهْم ذلك كله في ذهنِ طفلةٍ لم تحدّد بعدُ المعنى المعجمي للصديق.
تتضاءلُ فرصُ التقاء الطفلة الكبيرة بالصديقات جرّاء انتقالاتها بين المدارس… تتحدَّثُ مثل أمها عن سوء المدارس وتخبّطها أكثر بعد الجائحة. تبتعد رويدا رويدا عن هموم سنها، فتصير صورُها أكثرَ وِحدةً… وتزداد تباعدا بانطواء الجائحة. ستضمر تساؤلاتها عن جدوى الصديق باتساعِ مسافاتٍ لم تختبر قطْعَها.
وحين تكفّ عن الوقوف قليلا بالمرآة في استلهام تجارب متخيَّلَة، ربما تجد الفرصةُ طريقَها. تحبّ الفرصُ المباغتةَ إلى الأبد! تعود من نفسها عبر طرقٍ أخرى إن جفَّ طريقُها إلى المخيلة. لا تحبُّ الفرصُ من يلغيها. هي مقرونة بالمفاجأة مذ كانت، لكنّ انتظارها بلا طائل يُهينُها.
ربما ينقلبُ عالم الطفلة الكبيرة حينها بالتقاء غير متوقَّعٍ، فتلتقطُ صورةً مع صديقتين أو أكثر. سيكفيها الوقتُ لتكتبَ بتكرار مملّ جُمَلَ المراهقات المشهورة: (أصدقاء إلى الأبد… أفضل الأصدقاء مدى الحياة…). وستفهم مع الوقت أنَّ الشعارات أسهل من التجارب، والملصقات أسهل من الكتابة. ستجرب ذلك حين تكف عن الانتظار وقوفا وجلوسا، وستقصُّ حكاياتها الخاصة حين ترى عددا لا بأس به من وجهِ الصديقِ حين يأتي ووجهه حين يرحل. ستعرفُ الفرقَ بين الشيء وظله، والشخص وطيفه، والشخص ونفسه، وستبتكر مفرداتها وأوصافها الشخصية لمعنى الصديق وفقا لتجربتها.
في المرآة أيضا وقوفٌ غير متجسّد للآخر، يقف ويذهب بمعيتنا في كوْنٍ آخر يخصُّنا. سيصير له وجوده الثابت المسروق من الزمن، فكما تُجمِّدُ الصورةُ لحظةً زمنية بالتقاطةٍ، سيكون الصديق الحقيقي باقيا مثل ذلك. لكنَّ الوقتَ طويل جدا على اكتشاف مثل هذا، طويلٌ جدا ولا يُلاحظ بسرعةٍ كملاحظتنا لقامةٍ، أو مسافة، أو غائبٍ في الصورة.
ستعرفُ الطفلةُ الكبيرة ذلك مع الأيام، وتفهمه حتى تمتلك قصتها الخاصة في معاني الصديق؛ ذلك الذي يُعرَف حين يُقبِل لكنه يبقى بقاء المرايا للواقف بها. المرايا للذات والحياة كلها للصحب، ربما كان هذا ما قالته الخالةُ ولم تسمعه الطفلة حينها…
وربما سيحدث عيانًا بلا مرآة وستفهم الطفلة…
ربما.
نجوى العتيبي، كاتبة وباحثة سعودية، صدرت لها رواية (رفُّ اليوم، ما لم يستطع السيد الحصول عليه)، ونُشرت لها قصة (أسئلة اليدين) في منصة روى الإلكترونية. كتبت بعض المقالات والقصص في أخبار الأدب ومجلة القافلة، ومجلة النص الجديد بنسختها الرقمية الجديدة.