في قطار الدرجة الثالثة: ذكريات رمضانية مليئة بالعرق وأشياء أخرى
آية أيمن
لو كنتَ ممن ساقتهم أقدارهم ذات يوم للوقوف على طرف رصيف المحطة، في الفترة الزمنية ما بين الثانية عشرة ظهرا حتى حوالي الثالثة، انتظارا لقطار الدرجة الثالثة نقل عام - أو ما يطلق عليه "القشاش/ قطار الأقاليم" - فإنه عندما يجيء لن تدخله غالبا بإرادتك الحرة، بل ستدفع إليه دفعا بواسطة المجاميع الذين ينتظرونه معك على الرصيف، آملين أن يجدوا لأنفسهم أمكنة فارغة في العربة التي تستقر أمامهم، والتي أتت مكتظة أساسا بعد أن توقفت فى عدة محطات سابقة.
وهم في سبيل الركوب لا ينتظرون العربة حتى تستقر بمحاذاة الرصيف، بل يشرع الناس في الصعود فور قدوم القطار إلى المحطة، لأن الثواني فى هذا الموقف تقرر مصيرك للساعة المقبلة - أو للساعتين على حسب المشوار - فإذا كنت محظوظا، سوف تكون من القلائل الذين يتسنى لهم إراحة أظهرهم ومؤخراتهم على الكراسي القليلة الفارغة، وإما ستكون محكوما بأن تقف مزنوقًا في ركن ما، أو في الردهة أو بجوار الباب، حيث يصطدم بك الرائحون والغادون من الركاب والباعة الجائلين، بينما أنت تبدل في الارتكاز بين قدميك في محاولات يائسة لتجنب الإصابة بالدوالي.
اختبرت ذلك كله وأكثر لأنني اعتدت منذ سنوات قلائل - فى أواخر سنوات دراستي - استقلال القطار من وإلى الجامعة، كحل أرخص من الأتوبيس، إن استنفدت مصروفي اليومي في شراء الكتب المستعملة، أو قررت ادخاره لشراء شيء ما بنهاية الأسبوع.
وفي ظهيرة رمضانية، ليوم قائظ كعادة معظم أيام الصيفية تحت توحش الاحتباس الحراري، كنت سارحة بعيني من النافذة في أرض الله الواسعة التي تزرح بالناس والبهائم. أجلس في قطار العودة، على مقعد في أقصى ركن العربة، التي امتلأت بصائمين جفت حلوقهم وبلل العرق وجوههم، ويجلس بجانبي جوار الباب الذي ينفذ إلى العربة الملاصقة رجل أربعيني غلبان في حاله، يقرأ في مصحف صغير يحمله في حضنه، وكنا أنا والرجل نشكل قاعدة حرف (L) بالنسبة لشكل اصطفاف الكراسي، حيث اصطفت بقية الكراسي أمامنا في صف رأسي طويل.
في محطة من المحطات التي يتوقف فيها القطار كل نصف ساعة، والتي يبتلع فيها جماعات فوق الجماعات المتكدسة أصلا داخل العربات، دخلت امرأة بصحبة طفلها، وقررت - نظرا لضيق العربة - الانحشار بيني وبين النافذة، فصارت بجنبها ملاصقة لركبتي، وأصبح مكانها بالضبط في زاوية الحرف L، وقذفت بطفلها على الرف العلوي المخصص للحقائب، وسدت النافذة بطبيعة الحال.
لم أمانع كثيرا في احتجاب المناظر التي تطل عليها النافذة، ولكني تضايقت بشدة لأنه باستنادها بظهرها على النافذة، حجبت بعض النسيم القادم من الحقول في مثل هذا الوقت البربري من اليوم.
لما لم يكن هناك أي شيء لفعله بخصوص هذا الواقع، فقد اكتفيت بعقد حاجبين ينز منهما العرق، والتسلي بالتأمل فى ملامح المحيطين وتخمين نوع أنسجة الملابس بناء على مدى نفاذ رائحة العرق والتي لم تترك مجالا للتخمين، حيث كان أغلبها خليطا من البوليستر ومنسوجات صناعية.
وسط سرحاني في خلق الله واندماج الرجل بجانبي في التلاوة الهامسة لكتاب الله وانشغال الباعة الجائلين في الترويج لبضاعتهم، قطع ملل المشهد أن انتثرت فجأة كتل غامضة مبللة على الرجل الجالس بجانبي، حيث طار معظمها واستقر على مصحفه المفتوح.
بهت أغلب الركاب لثانية، ونظرت حيث ينظرون إلى رف الحقائب فوق رأسي. تبينت أن هذه الأجزاء المتناثرة هي لبابة حفاض أطفال اهترأ جراء كثرة الاستخدام، وحفاض الأطفال بالطبع يرجع إلى طفل السيدة المذكورة آنفا، التي قررت فجأة أن تغير حفاضة طفلها وهو ما يزال جالسا مكانه فوق رف الحقائب.
لحسن حظي وسوء حظ الرجل بجانبي، أن المرأة على ما يبدو قد شدت الحفاض بقوة، فطار أغلبه نتيجة للحركة المفاجئة على الرجل المسكين، ولم تصبني منه سوى ذرات أزلتها بمنديل معللة نفسي بارتقاب دش بارد طويل.
كل هذا ليس له ثقل يذكر مقابل ردة فعل الرجل، حيث أن المفاجأة قد ألجمته ما يقارب الدقيقة، وهو يحرك رأسه ويهز يده فى حركة عصبية يحاول الاستيعاب، ولم ينطق إلا عندما قالت له المراة "معلش بقى يا أستاذ" وهي مستمرة في تلبيس طفلها حفاضا آخر بعد أن طوحت الحفاض المستعمل من النافذة.
نطق الرجل بكلام كثير متآكل الحروف ومتضارب المخارج جراء العصبية والانفعال، لم أتبين منه إلا (إيه القرف ده) و(اتقى الله) (كتاب ربنا).
فجأة انفعلت المرأة لأول مرة منذ أن دخلت القطار، حيث كانت تحتفظ طوال وقفتها ببرود لا يناسب حرارة الجو، ونجحت في الإبقاء على برودها حتى وهي تغير حفاض طفلها في مثل هذا المكان الضيق الذي يستحيل معه إتمام هذه المهمة نظريا.
انفعلت المرأة في وجه الرجل انفعالا كاريكاتوريا لا يناسب وضعها من الحدث، وصرخت فيه بعبارات معبئة بإهانات وتجريحات، وحاولت في حركة مسرحية أن تشهد بائع مناديل كان يمر بين العربات بأن هذا الرجل يفتري عليها، ففتح البائع بحركة سريعة علبة مناديل وسلمها للرجل ومضي في حال سبيله دون أن ينطق بكلمة.
أخرجت من حقيبتي زجاجة كحول سائل وأخذت أبلل بعض المناديل لتسهيل عملية التنظيف، وأسلمها للرجل الذي احتمى بالصمت.
أخذت المرأة تتجاذب أطراف الحديث مع نسوة متفرقات في العربة -يبدو أنهن كن قد صعدن معها- عن الرجل الذي يفتري عليها، كان ذلك بعد أن أتممت عملية تغيير الحفاض لابنها التي كانت قد تركته "ربع عار" في أثناء ما كانت تتخانق وتنفذ حذافير المثل الشهير "خدوهم بالصوت لا يغلبوكم."
في هذه الأثناء كان الرجل يجلس ساكنا قد لاذ بالصمت تماما، حتى أنه أغلق مصحفه ووضعه في جيب قميصه، بينما استفسرت أحد النسوة بجدية: "هو متضايق ليه يعني؟" فردت المرأة بطلة الحادثة بأنها لا ترى سببا لضيقه المفاجئ، وأردفت: "دي مايه."
كان القطار قد توقف في محطة من محطاته الكثيرة، وحيث إنه قد قارب على الوصول من المحطة النهائية فقد ترجل منه من هم أكثر ممن دخله، ووجدت الرجل قد قام فجأة وتحرك في خطوات سريعة إلى الباب ونزل عن القطار إلى المحطة التي أشك في أنها كانت محطته.
تحرك القطار مجددا وكانت العربة قد فرغت من معظم راكبيها، ووقف كهلان جوار الباب يغمغمان بشيء ما عن القطارات أيام عبد الناصر، أما أنا فقد انتقلت إلى مكان بجوار النافذة، خال من رائحة البول و الحفاضات المستعملة، وعدت إلى السرحان بعيني من النافذة في أرض الله الواسعة، كتمت ضحكة وأنا أستعيد العبارة التى نطقت بها المرأة لتبرر موقفها: "دي مايه"
آية أيمن، كاتبة مصرية، نشرت ثلاث مقالات على موقع رصيف 22، كما نشرت مقالا مع موقع معازف. يمكن متابعة حسابها على منص إكس AyaAlhanafy@