top of page

المشي في القاهرة كقراءة صفحات من التاريخ

مي عاشور


إشارة أو شيء يستغلق عليها تفسيره ساقه القدر إليها. هكذا وصفت تكرار مجيئها -إلى هنا- في نفس الشهر واليوم تقريباً منذ سنوات طوال. وتقول إنها ليست أبداً صدفة، وخاصة بعد اتساع الفجوة الزمنية منذ زيارتها الأولى. تصف بابتسامة لطيفة لقاءها الأول بالقاهرة: "حينذاك... كُنت طفلة"، فهي لا تتذكر كل شيء بالتفصيل، ولكنها في الوقت نفسه لا تنسى المرة الأولى لمجيئها. لا شك أن الزمن يغالب الذاكرة، لكن يبقى كل شيء مرتبطًا بالمشاعر، والانطباعات الأولية في زاوية ما هناك.
أتذكر عند بداية تعارفنا في المركز الثقافي التركي بالقاهرة، لم يتجاوز حديثنا نصف ساعة، لكن رغم ذلك، ربط بيننا خيط صداقة متين اجتاز المسافات، ولم يكن التواجد في نفس المكان شرطاً لاستمراريته. تترسخ قناعتي بذلك، عندما تزجي ذاكرتي من خزائنها ملامح أناس جمعتني بهم سنوات أطول، ولقاءات أكثر، ومواقف مشتركة، ولكن كأنهم انصهروا ذائبين في الحياة، لم يبق لهم أثر، كأن الزمن فاتهم عند مرحلة بعينها ومضى، وبعدها لم يتجدد بيننا لقاء ولا كلام.
ما يؤثر بي يلهمني دائماً بالكتابة عنه، والتجول غالباً يُنبت بداخلي نية للتدوين. والكتابة عن القاهرة لازمها إحساس قوي، وكأن المشي في حواريها هذه المرة أسدى إلى شيء مغاير، ودفع ما يكمن من كلام إلى التماس طريق للانسياب دون جهد مني.
تُبدع صديقتي في صناعة الخزف التركي، ولديها حِس فني فريد، تجذبها الزخارف المختلفة، والنقوش الموجودة في الأماكن الأثرية، وتغرم بتصاميم الحلي الفرعونية، والملابس التقليدية وتطريزها اليدوي، وتجذبها المشربيات والمشرفيات، وفن الأرابيسك، وأينما قابلتها زخارف، وخط عربي منقوش على جدار أو أعلى باب، توقفت أمامه وتأملته وحدثتني عنه. فكل هذه النقوش، والزخارف، والخطوط، لا يستسر بها تاريخ وحكايات وثقافة ثرية متعددة فحسب؛ بل أيضاً تحدٍّ عنيد في مواجهة الدهر، وما يحمله من تغيرات شتى.
أحدثها عن بعض الأماكن وحكاياتها، تحملنا دردشة عشوائية إلى مروج من الأدب والثقافة، أشعر وكأنه يكلمني شخص قريب، لا أقصد قريب بفعل الصداقة التي تجمعنا، لكن لوجود كلمات مشتركة ومألوفة بين اللغتين: العربية والتركية، وأشياء مماثلة لم أتوقعها في الثقافة ومنطق التفكير، التفت لوجودها للمرة الأولى.
تقول صديقتي إن المرء يلجأ إلى الفن دائماً كوسيلة للتعبير عن الذات، فهناك أناس يعبرون عن أنفسهم بالكتابة، وآخرون يعبرون عن أنفسهم بالكلام، لكن هناك أيضاً من يستخدمون الفن لإبراز ما يجوس بداخلهم من مشاعر وأفكار وآراء. وشوارع القاهرة القديمة وحواريها تفيض بالفنون، بل هي في حد ذاتها فنون. والفن ليس للإبهار وحسب، ولكنه إثبات قوي وقاطع للوجود.
في طريقنا إلى باب زويلة، نمر بشارع الغورية وسوقها، وسبيل محمد علي باشا، وورشة عتيقة لصناعة الشمع.
عند مدخل باب زويلة، تمر السيارات أحياناً متجهة إلى حارة ضيقة، ودخولها إلى هناك مهارة في القيادة. فتفادي سيارة لأخرى معاكسة لها في الاتجاه في هذا الحيز الذي لا يكاد يتسع للدراجات الهوائية، وخطى المارة، وعربات نقل البضائع اليدوية، لهي مهارة مبهرة شهدت عليها صديقتي.
في يوم آخر، نزور مسجد ابن طولون، تعزلنا ساحته البيضاء عن الضوضاء في الخارج. أسألها لو تريد الذهاب إلى القبة الموجودة في منتصف الصحن، تتردد بفعل حرارة الشمس التي امتصها الصحن المكشوف للجامع. يغلبنا الفضول في النهاية. تتسرب إلى القبة نسمة متمردة على الطقس وحرارته، تشعرنا أننا داخل هذا العصر وخارجه. نترك صحن المسجد، لنتجه إلى مئذنته، والتي يكون الوصول إليها عن طريق الخروج من الصحن، والسير قليلاً لصعود سلالم خارجية مستقلة تدرج بنا إلى هناك. فكما جاء في كتاب "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون"، للدكتورة سعاد ماهر محمد؛ أن مئذنة ابن طولون تعتبر الوحيدة في مصر ذات السلم الخارجي.
ومن هناك، من أعلى المئذنة، يلوح مشهد مغاير للقاهرة: الشوارع والسيارات والناس، وأسطح البيوت، كأنها لوحة فنية فريدة من المنمنمات.
الأماكن مفاتيح الدخول إلى عوالم أكثر اتساعاً. والقاهرة نسيج ذهبي مضفر من التاريخ، ننتقل فيها من عصر لعصر بخطوة واحدة.
تقول صديقتي: "القاهرة مدينة لها روح"، تسحر بليلها والأنوار المتماوجة على صفحة النيل، والنسمات التي يهاديك بها عندما تجلس بجواره.
نقطع المسافات سيراً دون الانتباه إلى امتدادها إلا بالنظر إلى الساعة. نتجه إلى ميدان القلعة. ترغب صديقتي في زيارة مسجد السلطان حسن، وعندما أشير لها أيضاً إلى مسجد الرفاعي، تحكي لي عن كنان رفاعي، المتصوف والكاتب والشاعر الصوفي التركي، ومؤسس فرع الطريقة الرفاعية في تركيا، والذي تتلمذ على يد الشيخ حمزة الرفاعي في المدينة المنورة.
نتجول في شوارع القاهرة وأزقتها. نذهب إلى متاحف تاريخية متنوعة، وغيرها للفنانين والأدباء، تحتوينا باحات البيوت القديمة الأثرية، ونمر بمقامات، ودكاكين لحرف مختلفة، ومقاهي، وأسواق شعبية، ومعارض للفن المعاصر، وحارات تصلنا بأخرى جديدة. لا يزعجنا زخرها بالبشر، بل نصير جزءاً منه. فالمشي في شوارع القاهرة القديمة كقراءة صفحات متفرقة من التاريخ، تكون مألوفة لكَ، وجديدة عليكَ؛ لأن التفاصيل والحكايات والأحداث، والعصور -بفتراتها الزمنية المتقاربة والتي تفصلها فجوات زمنية- والروايات المتضاربة والمماثلة، والأمثال والحكايات الشعبية، وما مر من أحداث -كبيرة وصغيرة- وانتصارات وانهزامات، ونقاط نهاية وبداية، وصعود وركود، وتكرار وتفرد، أغنى بكثير من قدرة المرء على مجاراته واستيعابه، من غير التوقف والتأمل بمشاعر فياضة بل وأحياناً متضاربة.

مي عاشور، مترجمة وكاتبة مصرية، تترجم عن الصينية والتركية. تخرجت في قسم اللغة الصينية وآدابها بجامعة القاهرة. ترجمت العديد من النصوص الأدبية عن الصينية والتركية، نشرت مجموعة من المقالات عن الترجمة والصين وغيرها من النصوص في الصحف والمواقع الأدبية المختلفة. شاركت في مؤتمرات وبرامج دولية مختلفة متعلقة بالترجمة وغيرها. وقدمت أكثر من ندوة حول الترجمة والأدب الصيني. ألفت "قصاقيص كلام" وصدر لها ترجمة "كيف تجعل أبناءك يحبون الدراسة؟"، تأليف يانغ شيا، و"براعم الأمل: مختارات للشاعر الصيني وانغ جوه چن" و "أزهار البرقوق: نصوص من الأدب الصيني المعاصر"و"انتبه للسعادة" للكاتبة الصينية بي شو مين، و"حلم مكسور" للكاتب التركي طارق طوفان، ورواية "شكراً للحياة" للأديب الصيني فنغ جي تساي. و"المسؤول المزيف" للكاتب الصيني خان شاو جونغ.

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page