top of page

مقدّمات في الدفاع عن "الكشف الروائي"

عبدالواحد الأنصاري

يكمُن لنا بعض رفاق الفكر والأدب، كقومٍ استهَموا معنا في سفينة، ورأوا أننا في أسفلِها وهم في أعلاها؛ فأرادوا خرق نصيبنا السفلي منها، لعلّنا نصعد إلى أفقهم ونشاركهم في التمتع بالرؤية الشاسعة في الأعالي، فإن نحن تركناهم ومرادَهم أهلكَنا الكمينُ جميعًا، وإن أخذنا على أيديهم نجا الكامِن، والمكمونُ له، والأدب، جميعًا.
وقد كتبتُ عن هذه القضية في مذكراتي التي فازت بجائزة "أدب العزلة"، وهي العمل الأدبي الذي ضمّنته "ومضات" أو "إشراقات" قد يرى بعض الانتقائيين في الأدب أنها "أعمق" من جميع ما كتبتُه شخصيًا من أعمال قصصية أو روائية، بيد أنني أرى العكس، أو، بدقة أشد، أن كلّ جنس من هذه الأجناس الأدبية له قدراته "الكشفية" الخاصة، وسوف يتضح ما أريده من هذه المقدّمة في بقية المقالة إن شاء الله.
الآن أنتقل إلى نوع آخر من المقدّمات، وهو أن ثمة نوعًا من التشابه، بل التقارب، بين مفهوم "الفتح الأكبر" عند الصوفية (كما في أدبيات عمر الفوتي وغيره) وشخصية كاهن القبائل البدائية (يمكن استكناه شيء قريب منها في نبوءات نوستراداموس)، وبين مفهوم "الكشف" للشعر لدى بعض الوجوديين المعاصرين، خصوصًا أنصار الشعر (أو أعداء الرواية إن صحّ التعبير)، وأمثلُ ما يعبر عن هذا التوجّه محليًا هو تغريدات الأستاذ شايع الوقيّان وحواراته الصحافية، بل مناظراته حول هذا الأمر؛ ففي هذه الصور الثلاث (الولي أو المتنبئ أو الشاعر) يبدو الوجود فجأة متخذًا ألسنتَهم وسيلةً للانكشاف، بمعنى أوضح: في لحظة إلهام عميقة يقف الشاعر أمام الوجود مثل كاهن أو متنبئ يترقب انبثاق الحقيقة.
وإذن نحن لسنا أمام صورة جديدة فريدة من نوعها، بل نحن مع خصوم الرواية الوجوديين إزاء إعادة إنتاجٍ لمفاهيم الوحي الأسطوري، ولكنْ هذه المرة في ثوب عَلماني نخبوي يتوسل الغموض والتنظير الفلسفي.
ومقدمة ثالثة تقول: لا حاجة إلى تقرير أن عالَم اليوم هو عالَم القصّة والرواية، على الأقل حتى هذه اللحظة، وإذا كان ثمة من تنبأ بموت الرواية (لأسباب لها علاقة بالتحولات الجذرية في شكل الحياة والبيئة والثقافة التي ينتج فيها الأدب)، فإن الأدب الأصيل المكتوب كلَّه قد يكون في طريقه إلى الانحسار، في ظل التقدم السريع لإمكانات الذكاء الاصطناعي وتوسّع رقعة الأدب الشفهي والأدائي على بثوث وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يجعلنا نتصور أن الأدب يتحول شيئًا فشيئًا إلى منتج شفهي تسويقي حجاجي وجدالي وبلاغي على هذه الوسائل. لكنّ هذا كله، إذا افترضنا وقوعه، فإنه إنما يصب في انحسار أجناس أدبية أصيلة، من بينها الشعر الوجودي، لمصلحة أجناس أخرى، بسبب عوامل وتحوّلات اجتماعية وثقافية وسوقيّة، وليس للأمر علاقة بأصالة وعمق و"كشف" هذا النوع الأدبي أو ذاك.
ولكن من أسباب انحسار الأنواع الأدبية، لدى الأدباء والمثقفين والعوام، على السواء، إشاعة ذلك النوع النخبوي من التململ من الأجناس الأدبية على أساس أنها "ثرثرة" وكلام فارغ، حتى ما عاد مبدع يستطيع أن يكتب باطمئنان جنسًا أدبيًا دون أن يعتريه القلق من وصمة تُلحقها به نُخَب "العُمق" و"الابتكار" و"الكشف"، على طريقة تهويل مقولة امرئ القيس (نبكي الديار كما بكى ابن حِذامِ)، ثم دفع التهويل إلى الأمام بمقولة عنترة (هل غادر الشعراءُ من متردّمِ) ثم افتعال مذبحة للأدب على أعتاب زهير بن أبي سلمى أو ابنه كعب (ما أرانا نقول إلا رجيعًا... ومُعارًا من قولنا مكرورا)؛ فلو أن العرَب وسّعوا رقعة نفوذ الإمكانات الراديكالية لمثل هذه الأبيات لتوقّف الأدب العربي في العصر الجاهلي، ولما ورثنا منه سوى إيماءات ونفثات "هولدرلينية" متقطعة، على "حماسة" مجمّعة من مقطّعات الأعراب والكهّان.
وعلى سبيل الرجيع والتكرار للمقدمة الأولى التي أشرت فيها إلى ما كتبتُه في مذكّراتي عن هذه القضية، وبها افتتحت هذه المقالة (عطفًا للصدر على العجُز)، أضيفُ بتصرّف غير يسير :
قد تحدث في الحياة أشياء غير عاديّة؛ منها أن يكون قعودك في بيتكَ إسهامًا في تقليل المخاطر (كانت المذكّرات تُكتب في أزمة كورونا)، ومنها أن يعترض عينيك مشهدٌ يُظَنّ أنه طفل اللحظة، وهو شيخ تسعينيّ كبير يدبّ على عصا.
ثار جدل قبل أيام (كان ذلك في أبريل 2020) حول فيلسوفٍ يصف الرواية بأنها "ثرثرة"، فهل جاء قوله ذلك على هامش مباهاة بمآثر الفلسفة (لم أكن أعلم آنذاك أنه كان يحتفي بالشعر والفلسفة في مقابل الرواية لأسباب تتعلّق بمذهب فلسفي).
وإن كنت قد فهمتُ ما قال، فلا أعتقد بأن فكرة انتشار الرواية واحتمال ذيوع "الثرثرة" فيها، تمثّل بحثًا أصيلًا، إنها ليست نبتة ربيعية، بل هي هرِمٌ شبيه بالعود اليابس؛ فأنا أحسب أني ربّما شاهدت مقطعًا لطه حسين يصف فيه إحدى روايات ألبير كامو (أظنها رواية الطاعون) بأنها فلسفة، بل ثرثرة، أو هي قول قائل لا يعلم ما يقول.
وأرجو ألّا يكون الكاتب قد امتطى صهوة أسلوب الحذف والإسقاط: فطه حسين يعيب قصة الكاتب الفرنسي بأنها فلسفة أو ثرثرة، ولا يعيب بذلك الجنس الروائي برمّته.
ثم إن هاهنا قصة أخرى: إن الحديث عن إشكالية شيوع الرواية والقصة ليس وليد وقتنا هذا؛ فقد اطلعتُ على أقدم مقالة كُتِبَت فيه، بحسب علمي، في العدد الواحد والستين من مجلة الرسالة، الذي صدر يوم الإثنين 24 جمادى الأولى سنة 1353هـ الموافق 3 سبتمبر عام 1934م، ونشرها كرم ملحم كرم بعنوان: "ما هو أدب اليوم"؟ وأجاب:
"أدب اليوم رواية وقصة، فالمنشئون من أي طبقة كانوا لا يعتمدون في معظم مؤلفاتهم على غير الحكاية والرواية، فالفن القصصي هو السائد، وأكثر الأدباء بلغوا القمة في إخلاصهم لهذا الفن. ولا بِدْعَ، فالرواية محكّ الأدباء: المنشئ البليغ يتجلى في بهائها، وأما الكاتب السمِج فيفضح ضعفَه إذا جعلَها عصا يتوكّأ عليها".
لقد عالج كرم ملحم كرم هذه القضية وفرغ منها في أربعة أسطر، قبل نحو من تسعين عامًا؛ فجميع من هاهنا يعلمون أن على باب الرواية أدعياء يتمسحون برتاجه، وقد فضَحهم الفن الروائي، والمنشئ البليغ حجّة على الكاتب السمِج، لا العكس.
ثم إن الفلاسفة أنفسهم يردّ بعضهم على بعض، ويصف بعضهم خطاب بعض بـ"البائس" أو "الواقع في النسيان" أو "الذي نسي الوجود وأكبّ على الماهية، متجاهلًا الأشياء كما هي في خبرتنا"، وبعضهم يرمي الآخر بأنه "يثرثر" ولا يزال مشغولًا بدعوى "تفسير" العالَم عن "تغييره"، وهذا لم يؤخذ على محمل الجد في كل حال، مثلما أنه لم يُحمل على محمل الجِد كل كلام قيل في الموت والنهايات، مثل "نهاية التاريخ" و"نهاية الإنسان"، فضلًا عن "موت الإله" و"موت المؤلف" وقضايا مشابهة.
يُجلّي الإيطالي كالفينو النواة الفكرية للجزء الأول من ثلاثيته الروائية الشهيرة (أسلافنا) بقوله:
"الإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، يصفه ماركس بأنه "مغترب" وفرويد بأنه "مقموع"؛ إذ إن حالة التناغم القديمة قد ولّت، وبدأنا نتطلع إلى نوع جديد من التكامل. تلك هي النواة الأيديولوجية الأخلاقية التي كنت أريد إضافتها بوعيٍ للقصة، ولكن بدلًا من أن أعمل على تعميقها على الصعيد الفلسفيّ، فضّلتُ أن أعطي للرواية هيكلًا يعمل عمل آلة متكاملة، وأن أعطيها جسدًا ودمًا من التراكيب الخيالية الغنائية" (انتهى الاقتباس من مذكراتي).
إن كالفينو أراد أن يقول: ثمة فسحة من "القول" (أو لنقُل: الكشف) تتاح في الرواية أكثر مما هي متاحة في الفلسفة أو الشعر أو السينما أو أي جنس آخر من الأجناس الفكرية والأدبية، وليس هذا الأمر بنادر حتى نبحث عنه في مظانه، فالأدبيات التي تعنى بالرواية جعلت من شغلها الشاغل بيان أنها قادرة على الاضطلاع بطريقة متفرّدة بعبء "كشف" الوجود؛ وهذا ما يؤيده الفينومينولوجي كونديرا بقوله، مستشهدًا ببروخ:
"الرواية ليست بالنسبة لي جنسًا أدبيًا، غصنًا من أغصان شجرة واحدة. ولن يفقه أحد شيئًا في الرواية إذا أنكر عليها آلهة الفن الخاصة بها، إذا لم ير فيها نكهة خاصة، فنًا مستقلًّا (...) الخلق الوحيد للرواية هو المعرفة؛ والرواية التي لا تكشف أي شذرة مجهولة من الوجود هي منافية للأخلاق، أي تقصي روح الواقع (...) حتى يستطيع الروائي التقاط الصوت الخفيّ، الذي لا يكاد يُسمع، لروح الواقع، عليه أن يعرف، بعكس الشاعر والموسيقيّ، كيف يُسكِت صرخات روحه الخاصة".
ويقول أيضًا مدافعًا عن "الروايات التي تفكّر":
"الروائي الذي يتكلّم عن فن الرواية ليس أستاذًا يثرثر من منبره. بالأحرى تخيلوه رسّامًا يستقبلكم في محترَفه حيث تراقبكم لوحاته المعلّقة على الجدران من جميع الجهات".
ثم إنّ هذه مقدّمة أخرى (ما عدت أهتم بالعدّ، فالمقالة كلها مقدّمات) بودّي أن أهمس في آذان المعتنين بالفلسفة بأنّ القضايا المشتركة التي تتعاورها العقول لا تحتاج إلا إلى دُربة حواريّة وخبرة تأمّلية، والعقلاء شُركاء في هذا المعنى، يشترك فيه المفكرون والأدباء والقراء في حقل الثقافة، وأتباع المذاهب الذوقية والكلامية في حقل الديانات، وليس المهتمّين بالفلسفة الغربية القاريّة فحسب؛ فعلى سبيل المثال، الحديث عن الوجود ليس حكرًا على شريحة بعينها، بل هو من حق كل ذي عقلٍ قادر على التجريد والتأمل والتركيب وذي مرونة في الحوار.
وعلى سبيل التقديم أيضًا: حين أتناول في هذه المقالة مفاهيم مثل "الانكشاف"، و"الذات"، و"الوعي"، و"الوجود"، لا أنطلق من موقفٍ يرى أن العالم لا يوجد إلا بوصفه تصوّرًا ذهنيًا، ولا أتماهى مع اتجاهات تُنكر استقلال الموجودات عن الوعي. بل ألتزمُ برؤية معرفية واقعية تقرّ بوجود العالم الخارجي استقلالًا عن إدراكنا له، وترى في "الوعي" وسيطًا للكشف، لا مُنْشِئًا للوجود. إنّ الذوات المعيّنة موجودة خارج الذهن، والانكشاف الذي أتحدّث عنه هو انكشاف معرفيّ تحكمه شروط التفاعل بين العقل والموجود، لا تجلٍّ غيبيّ لموجودات "خلفية" لا تتحقق إلا بلحظة وعي مخصوصة. ومن ثم، فإن كل حديث عن "الكشف" هنا يجب أن يُفهم في هذا الإطار.
فقضية الوجود إما أن تتحدث عن وجود خارجي أو ذهني، والوجود الخارجي إما ذات مستقلة خارج أذهاننا (وأنبّه هنا على أنني لا أستخدم هنا الذات بالمعنى المقابل للموضوع، بل أقصد الشيء المتعيّن بصفاته، كأن أقول: متعيّنةٌ ذاتُ صفاتٍ) سواء أكانت ذاتًا واعية أم غير واعية (كالإنسان أو الليل)، وإما صفة لهذه الذات (كالعِلم أو الطول)، ولكن لا يُعدّ الوجود صفة زائدة على الذات إلا إذا استخدمنا التجريد، فتصوّرْنا ذاتًا مستقلة عن الوجود، ووجودًا مستقلًا عن الذات. أما خارج الذهن فليس إلا ذاتًا متصفة بالوجود أو صفة لذات تتصف بالوجود تبعًا لها. لكن إذا اتصفت الذات بالعدم فهذا شأن ذهني بحت، إذ إنها لم تعد موجودة، وليس العدم في ذاته شيئًا ولا وجودًا ولا صفة وجوديةً ليوصف بأنه وجود غير موجود؛ وهذا هو أشدّ مواضع الإشكال عند تناول ما يصف به البعض مفهوم الوجود لديهم؛ فقد لا يتورعون عن وصفه بأنه "وجود غير موجود"! بيد أن الذوات المعيّنة موجودة، وهذا هو معنى وجودها ببساطة، والعدم هو انتفاء هذه الذات، ولا شيء وراء ذلك، ولا مجال لوجودٍ ثالث بين الأمرين.
وبعدُ، عندما "ينكشف" وجودٌ ما لأحد دون سواه فهذا الانكشاف غير راجع إلى أن الذات (الذات هنا تقابل الموضوع) أوجدَته في الخارج، لكننا نتحدث هنا عن انكشافه للوعي، هذا الانكشاف سببه إما وجود وسيلة في العالم الخارجي المعيّن استفاد منها ذلك الواعي، وإما أنّ سببه نوع خاص من الوعي، وإمّا اتحادٌ بينهما، فاستطاع المرء أن يحقق هذا "الكشف"، كما تميّز العين الثاقبة، بمساعدة المجهر أو التلسكوب، الجزيئات المجهرية أو الأجرام السماوية النائية الموجودة أصلًا هناك مستقلة عن العين وعن التلسكوب.
التصوّر هنا سهل جدًا، على رغم ما فيه من اختزال، فليست عملية الانكشاف، مهما كانت عظَمَتُها، ومهما كانت إضافاتُ الذهن والوعي عليها أو تحويراتهما لها، ليست شيئًا يأتي من خارج التفاعل بين العمليات الذهنية وما نقلَته الحواس عن الخارج، أو بين الوعي وما جلَبَته أدوات الإدراك.
وكذلك، ثمة مقدمة على سبيل مناقشة المبالغات في أمر مشترك يُحشر قسرًا في مقام واحد من بين مقامات عدّة متماثلة، ومفادها أنّ الأثر الذي يُحدثه فيك العمل الإبداعي سببه أنك تقف أمام شيء مستقل مختلف، في لحظة وعي تختلف عن اللحظات العاديّة والمجّانية، لنقُل إنك تقف أمام "قول" لا "ثرثرة"، لكن هذا لا يعني أن هذا العمل الإبداعي بلا وظيفة، بل له وظائف عدة، كجذب الجماهير أو إحراز الأرباح، حتى اكتساب الشهرة أو اجتلاب الفخر، ومنها الوظيفة الإبداعية، وهي استثارة نوع من التفكير والتأمل لديك؛ وهو في هذا من حيث المبدأ (وهنا تظهر مآلات المبالغات) لا فرق بينه وبين الفأس التي تستخدمها للقطع، ولا وجود لوظيفة خالصة بالمعنى الوجودي المحض، بحيث تستقل تمامًا عن نوازع البشر وحظوظهم.
وعليه فإن العمل الإبداعي أيضًا قد تنحجب وظيفته الفنية في بعض السياقات أو بفعل الاعتياد؛ فبرج "إيفل" تحفة معماريّة تختفي وظيفتها بالنسبة إلى سكّان باريس حتى يتصدّع البرج أو يقل زائروه أو تنقص إيراداته... إلخ؛ وسبب اختفاء الوظيفة هنا ليس أنه فني أو غير فني، بل هو الاعتياد غالبًا، وتآكل الحضور الجمالي بفعل الألفة، وهنا لا نتحدث عن شيء أقل كشفًا من شيء، بل نتحدث عن "كيف ينحسر تأثير الشيء حين يصبح مألوفًا". إن لوحة شهيرة مثل "ليلة النجوم" لغوخ يمكن أن تنقلب إلى مجرد خلفية بصرية، مثل أي لطخ مرسوم على ورق حائطي في حياة السكّان اليوميين، وفي هذه الحالة لا يعود هذا عملًا فنيًّا يلبي اشتراطات "الكشف" الوجودي؛ لا لأنه أصبح وظيفيًا بعدما كان "كشفيًا"، بل لأنه لم يعد يُقَوَّم ويُتَدَبَّر، وغاص في التكرار والعادة. وإذن؛ العمل الإبداعي، حين نعلّقه بلحظة ذاتية مثالية ونتجاهل استقلاله خارج الذهن، لا يتجلى دائمًا عملًا فنيًا، بل كثيرًا ما يعود مجرد شيء عادي؛ لأنه بالنسبة إلى الوعي "حدَث"؛ والحدَث ينطفئ، وهذا العمَل الإبداعي، أو ذلك البيت الشعري إذا لم يعد يأخذ بمجامع القلوب، وإذا أخذ سحره الأول يتلاشى من الذاكرة فإنه يفقد أثره العميق، ويتحول تدريجيًّا إلى عنصر ديكوري أو متحفي جامد (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرًا)؛ وهذا ليس إعفاءً للبشر من مسؤوليّتهم عن انغماسهم في اليومي ونسيانهم لآيات الوجود (وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)، وفي الحقيقة، لا فرق بين من ينصرف عن آية الفنّ في الشعر ومن ينصرف عن آيته في الرواية، وكلّ ما هنالك هو أن ما عطّل الكشف المتحصل من الرواية لدى الوجودي الانتقائي هو الحجاب الذي نصَبه هو شخصيًا بينه وبينها، وهو حجاب قتَل لديه إمكانية الكشف عن الوجود فيها. وهنا أستدرك بأني لم أستدعِ الآيات في سياق الإيمان والكفر، بل في سياق "الكشف" و"الحجاب"، حيث يتوقف تكشّف المعنى الخارجي في الوعي على شرط التلقي.
إن الطفل أو الشاب الذي يقود السيارة لأول مرة قد ينظر إليها غير نظرته إلى السماوات والنجوم، لقد انكشف له معنى وجودي لها في ظل أدائها وظيفتها، ولم تغيّب الوظيفة عنه هذا الانكشاف؛ بسبب قوة الدهشة والحضور، فها هنا: المتلقي والدهشة والعلاقة الحيّة بالشيء، وذلك يؤدي إلى مثل هذه الخبرة الوجودية والجمالية في آن، ولا شيء يأتي من غير العالم بآياته والمتلقي بتفاعله وخبراته، لا شيء يأتي من انكشافٍ باهرٍ لوجودٍ ظهر فجأة، لا من الموجودات! وهذه الخبرة الذوقية قد تحدث كل لحظة: في إعداد الطعام، وفي لعب الطفل، وفي نظرة مسترقة من ضجيج الدنيا إلى النجوم. ما يحدث في تلك اللحظة للذات المتأملة هو نوع التجربة المتولدة من تفاعل وعي نوعي مع محسوس ومشعور به يحمل رسالة نوعية. وكلمات الشعر التي ينطق بها الشاعر أو يكتبها، إذا كان متصفًا بالقدرة الإبداعية، في مثل تلك اللحظة، تعبير أدبي رفيع، وليست تجليًا لشيء غيبي كانت اللغة تنتظره، بل هي ولادة داخلية لصياغة حسية وفكرية، يتجلى فيها سرّ التخلّق بعد تلاقحها مع ما وراءها، وتلك لحظة تعبير وتكثيف إبداعية لما نتج عن عمليات تفاعل الأديب مع عالمه، وليست بلحظة كشف صوفية نتجت من الصمت والعزلة والانتظار. قد نقبل المبالغات في سياق بلاغي تخييلي، مثلما نقبل أن الشاعر "يحلّق بجناحين" وهو لا يزال معنا يمشي بقدمين على هذه الأرض، لكن القصيدة هنا نتاج استقبال فريد وتفاعل فريد وإنشاء فريد، وليست مرآةً جرت تصفيتها وصقلُها لتظهر فيها تجليات الوجود المتوارية خلف القشور اليومية.
ومن المقدمات التي ينبغي أن نراعيها أيضًا أن نُسَائِلَ عن نوع الشعر الذي تتطلبه هذه الشروط الإقصائية. لكن قبل ذلك مقدمة أخرى: ما موقف هذه الشروط مثلًا من بقية الفنون الأخرى؟ كالرسم والموسيقا والنحت والأدب النثري؟ لا أجزم بالإجابة، ولكنني متأكد من أنّ الشعر في ظل هذه الشروط التعسفية هو الفن الذي يستطيع استبطان اللغة بحيث يجعلها تنطق بحقيقة الوجود؛ وهذا يمنح الشعر مكانته الفريدة وفقًا لهذه الرؤية الهايدغرية.
إن الإشكالية هنا في أن هذا التعسف يقصر الانكشاف على نوع واحد من التعبير، مما يغفل التنوع الغني في الفنون الأخرى التي قد تكشف عن أوجه مختلفة من الوجود، وهذا يطعن في صلاحية هذه الرؤية لتقدير تنوّع الفنون وإدراك تجليات الوجود فيها.
والآن نعود إلى المقدّمة التي أرجأناها آنفًا، أيّ نوع من الشعر يفي بالشروط المذكورة؟ الإجابة التي "تنكشف"، بعد حين من الصمت والانتظار، هي أن الشعر الذي يُفترض أن ينطق فيه الوجود لا بُد أن يكون كثيفًا متجاوزًا اللغة الوصفية الإطنابية والحكائية العادية وفي حالة محضة من الاستعداد لاعتناق طيف الوجود. وفداحة هذا الاشتراط ليست في مجرد إقصاء أجناس أدبية غير الشعر فحسب، بل في إقصاء الشعر الذي لا يتوافق مع الرؤية التي تشترط له لغة غير توصيفية، غير حكائية، غير يومية، غير عادية، ويتجلى فيها بوح الوجود وينكشف. وبناء عليه لن تحظى أنواع كثيرة من الشعر العالمي، التي قد تكون ذات قيمة جمالية أو فكرية، لن تحظى بالدرجة نفسها من الأهمية، هذا إن لم تُعَدّ من اللغط والثرثرة اللاهية بالعالم وبالناس عن الوجود! وتحت وطأة هذا التمييز نحدّ من قدرة اللغة الشعرية على الانكشاف، إذ يُربط هذا الانكشاف بنوع محدد من الشعر ذي لغة تتوافق مع رؤيته، وهذا يحد كذلك من قيمة التنوع في أساليب التعبير الشعري والتعبيري في الشعر، بين إيجاز وإطناب، وبين كناية ووصف مطابق واستعارة لا قيود عليها، ويُحصَر تجلّي المعاني القيّمة في الوجود في نمطٍ شعريّ واحد، وهذا حكم قد يسري على كل شاعر؛ فنحن لا نُغفِل أن شعر هولدرلين نفسه (وهو الأحبّ إلى هايدغر) لا بد أن يحتوي مواطن وصفية استطرادية أو حوارية أو خطابية أو جدالية، ولا بد أنه وُجد في أزمنة الكتابات الحكائية في ألمانيا، وكتب شيئًا من الرواية أو المسرح، وتلك، كأي نصوص إبداعية، لا مفر لها من أن تضمّ تنوعًا ما من الأساليب (بالغةً ما بلغَت ندرتها)، وعندئذ فإن مواطن "الثرثرات" من هذا الشعر أحرى بأن تُلزِم بإقصائها من يتبنّون تلك الاشتراطات المتولدة من الحفاوة بتلك النصوص وبمُنشِئها.
لكنني أفضّل الإتيان بالنماذج المختلفة اختلافًا واضحًا؛ فلنأخذ وايتمان هنا على سبيل المثال، الشاعر الأمريكي المعروف بروحه الديمقراطية (هذا خلل بحسب الرؤية الوجودية؛ لأنه ينشغل بالآليات والحواريات ولا ينفذ إلى الجوهر)، وأسلوبه الحُر (هذا خلل أشد؛ لأنه لا يمكن أن تتجسد فيه اللغة الوجودية العميقة)، في مقابل أسلوب هولدرلين التأملي العميق الذي يستوطنه الوجود. شعرُ وايتمان من النمط الذي يحتفي بالحياة اليومية، بالتعددية، وبالإنسان العادي، وجمال الحياة اليومية، ولغته ليست كلغة هولدرلين. لغة وايتمان بسيطة، ومباشرة، واحتفائية، مما يجعلها أقرب إلى روح الشعب، وأكثر شمولية.
من وجهة النظر المتطرفة تلك، قد لا يُحتسب شعر وايتمان كاشفًا عن الوجود بالعمق المنشود؛ لأنه يركز على الحضور الإنساني في العالم، ولا يترفع عن الوصف بالتفاصيل، ولا يحاول نفيها كي يتأمل وينتظر ريثما يتجلى في مرآته ذلك "الفتح الأكبر".
من نافلة القول أنْ أؤكد مبدئيًا أنّ "الانكشاف" الإبداعي لا يلزم أن يكون في عبارات مقتصِدة أو مكثفة بعينها، بل قد يكون الانكشاف حصيلة لمجموعة من التنويعات الأدبية المصوغة باقتدار؛ فعلى سبيل المثال، عندما أتجوّل في متحف كامل، قد تتكوّن لدي شيئًا فشيئًا بصيرة مجتمعة من وقفاتي أمام جمع من اللوحات، وليس من وقوفي أمام لوحة واحدة، وقطعًا ليس من انتظاري لوجود خاص يداهمني بغتة في أحد الدهاليز. ومِن ثم، فما يعدّه خصوم الرواية ثرثرة لا يكون كذلك في نظر من يتأمّله بطريقة خاصة، وليس هذا شأنًا تختص به الرواية، بل إن المرور عبر مجموعة من اللوحات في متحف غوخ، أو قراءة رواية طويلة، أو ديوانٍ لوايتمان، يولّد فهمًا عميقًا ومتدرّجًا، يتشكل من التفاعل المستمر لخبراتنا المتنوعة مع الأعمال الفنية أو النصوص، وهذه التجربة التراكمية تسمح ببناء رؤية شاملة وفهم أعمق لا يُختزَل في لحظة واحدة، وهذا قد يعني أيضًا أن الأعمال الفنية والأدبية، سواء أكانت روايات مطوَّلة أم مجموعات شعرية أم معارض فنية، تحتاج إلى وقت وتأمُّلٍ كي تُفهم حقًا، وأن الانكشاف قد يكون نتيجة لتراكم التجارب والأفكار، وما قد يبدو للوجودي "ثرثرة" أو "غير مهم"، لم يأت من سطحية العمل الأدبي، بل أتى من النظرة السطحية؛ لأنه قد يتحول إلى حقيقة عميقة عند النظر إليه من زاوية أشد شمولًا وتأملًا، وهذا يتطلب من المتلقي أن يكون منفتحًا على التجربة الفنية أو الأدبية بشكل كامل، وأن يسمح لنفسه بالغوص في التفاصيل والتراكمات التي تسهم في تشكّل المعنى.
والحال الأبلغ في بيان ذلك هو حال كونديرا، الذي يعدّ اشتغاله برمّته نموذجًا للرواية التي تتأمل في الوجود، وقد ورث كونديرا الأدوات الفينومينولوجية، لكنه، لمّا رأى حتمًا عليه مواجهة الستالينية في عالمها اليومي، استثمَرَ التأمل الروائي لكي يفككها على نحو ساخر لا يتأتى نظيره في الشعر، وليس ذلك عبر تحليل الستالينية بوصفها بِنية طبقية أو نتاجًا لاحتكاك الواقع المادي، بل عبْر اختزالها، في حوارات روايته واستطراداتها، إلى رؤية شوبنهاورية للعالم بوصفه تمثّلًا وإرادة (أما لماذا رآه أقرب إلى شوبنهاور منه إلى نيتشه فهذا بحث آخر). لقد حوّل كونديرا الديكتاتور من رمز ماديّ إلى كاريكاتير مثاليّ، وسخِر من الجريمة بإخراجها في هيئة حفلة جوفاء من التمثل والإرادة. وبهذا أنجزت الرواية، بالتأمل والتفكيك وإعادة التركيب عبر الحكاية السردية المتماسكةِ البِناء، ما لم يُنجزه لا الشعر ولا الصمت: فضْح العنف عبر مرآة التفاهة.
أما مقدمتي النهائية فتنحاز إلى أن الانكشاف غير مشروط بأن يكون مقترنًا بنوع معين من الإبداع أو بأسلوب محدد، بل قد يتجلى سحر العالم أو الوجود في أشكال متعددة، وهذا يفتح الباب لإعادة التقدير للفن الشعبي، والأدب التجريبي، والكتابات المهمشة، والسرديات غير المركزية، ومن هنا ما عاد ثمة مجال لكي يقول لنا شاعرٌ ما، أو ناقد ما، حتى فيلسوف ما، هذه العبارة: "إذا كان تولستوي يستطيع أن يقول: في الحربِ تكمنُ للعدوّ... هُنا الرّفاقُ هم الكمين، فلماذا يُهدر مئات الصفحات في الثرثرة حول ذلك؟!"؛ لأن الإجابة حينئذ مفادها (بجملة استعارية): إنّ رواية "الحرب والسلم" كانت هي بمثابة الوجود الذي اتخذ هذا البيت الشعري مرآة لتجلّيه.
إن التجربة الروائية عند تولستوي قد توفّر النموذج الأوضح لما أودّ قوله؛ فبعض شخصيات "الحرب والسلم" الكثيرة جدًا قد تُفهم بوصفها تجسيدات رمزية لتحولات ذات الكاتب، أو أشخاص عايشهم همْ وتقلباتِهم، وكانت كل واحدة منها كشْفًا عن تولستوي نفسه أو من رآهم أو قرأ تاريخهم، في طور من أطوارهم التي لم يستطع أن يستوعبها جميعًا برؤية شاملة إلا حين سَكَبَها حتى آخر قطرة منها في أضابير الرواية، وهذا احتمالٌ تأويليّ مشروع يمكن تتبّعه نسقيًّا وسياقيًّا من خلال مقالاته، ومراسلاته، وتأملاته الدينية والفلسفية، حتى مذكرات زوجته وما كُتب عنه من دراسات. وقد كانت الرواية بالنسبة إليه فضاءً لتشظّي الذوات وإعادة تركيبها من خلال شخصيات متعددة؛ وقد اشتهر في الأدبيات التي قارنت الرواية بحياته أنّ "بيير" يمثل طور البراءة والحماس الروحي لديه، و"أندريه" يصوّر الانهيار البطولي، و"كاراتايف" يرمز إلى الطمأنينة البسيطة التي استَهْوَتْه في نضجه. وفي هذا السياق لا تغدو الرواية مجرد تمثيل سطحي للعالم، ولا إعادة كتابة لسيرة الحرب وقصص عوائل روسيةٍ ما في إبّانها، بل عودة لذات المبدع إلى ذاتها وذوات أخرى مثلها، لا بوصف الذات واحدة، بل متصدعة، ومنشطرة، ومتحولة. وصحيحٌ أنه أمكن لبيت شعر واحد، منبثق من تلك الرواية أن ينصت إلى اللبّ المتأتي إليه من مئات من صفحات الرواية (في الحرب تكمن للعدو/ هنا الرفاق هم الكمين)، لمّا عبّر عن الانقلاب الوجودي الذي يعيشه البطل حين يكتشف أن الحرب، بكل وحشيتها، قد تبدو أصفى من زيف السلام وخداع الرفاق، حيث الأصدقاء هم من ينصبون الكمين الحقيقي. وهذا كشفٌ وجودي لا يولد من حدس أو تطهّر ونفي وانتظار، بل من تعمّق الشعر في مرآة الرواية، وفي طبقات الألم الأخلاقي والنفسي التي بلْوَرَها السرد، فالشعر إذا كان يصغي وينتظر هنا فإنه لا يصغي ولا ينتظر إلا الرواية، لكي يكتمل وجودها فيه؛ فيحولها إلى تكثيف رمزي دالّ.
وما سبق أن قلتُه لا يختص به قارئ مثلي، قرأ مع "الحرب والسلم" "آنا كارنينا" وسيرة تولستوي ومذكراته وبعض تآليفه، وأثّرت فيه عبارة ظل يرددها ساباتو عن الروائيين (يروي ساباتو عن فلوبير قوله: "مدام بوفاري هي أنا"). بل هو يَصْدُق حتى على قارئٍ روسي للملحمة المذكورة في إبّان الحقبة الستالينية.
ينشأ هذا القارئ في الاتحاد السوفييتي ويترعرع، ويقرأ الرواية المذكورة، ثم تقع عيناه على عبارة أتخيّلها منقوشة في آخر صفحة منها، أو في صفحة الغلاف الخلفي: "في الحرب تكمن للعدو... هنا الرفاق هم الكمين"؛ فتتكشف أمامه طبقاتٌ متراكِبة من المعنى، لا بوصفها ومضة متعالية، بل كصدى لعلاقاتٍ معقَّدة تتجسد في التجربة البشرية. هنا: لا يتعامل القارئ مع البيت كما لو أنه مفتاح سرٍّ وجودي غامض، بل كبِنية لغوية وواقعية تتضمن عُقَد التوتر الاجتماعي والسياسي والنفسي، والعبارة تحمل في طياتها مفارقة الحرب والسلام، والصدق والخيانة، والانكشاف والتواطؤ، ولكن لا تفعل ذلك بالخروج من العالم، بل بالانغماس في قلبه.
البيت في ظاهره يقرر مفارقة: في زمن الحرب يكون العدو مكتملًا، واضحًا، وجهًا لوجه. أما في زمن السلام فإن "الرفاق" هم الكمين. ومن يستعيد شخصية "بيير" في رواية تولستوي (الحرب والسلم)، يجد نفسه أمام تجسيد حيّ لهذه المفارقة؛ فـ"بيير" حين يكون قريبًا من ساحة القتال يبدو أقرب إلى اكتشاف نفسه، لكنه في صالات النبلاء يعاني من رفقة زوجته الخائنة، ومن غريمه الذي يضطر إلى مبارزته هنا في السِّلم ولا يلتقيانِ في الحرب، ومن مجتمع مخملي يُخفي سيوفه تحت أناقة القفازات.
كلمة "هنا" في البيت الشعري، لا تُشير إلى مكان محدّد، بل ترمز إلى حالة من "سِلم زائف"، في ظل حرب مقنّعة، تتحول فيها المناسبات المجتمعية إلى ساحات مموّهة للصراع الخفي. في حالة "بيير"، السلام، في خضمّ الحرب مع الفرنسيين، كشف أن العدو قد يلبس هيئة الصديق، وهذا شأنٌ أشاركه فيه أنا والقارئ الذي يعيش تحت حكم ستاليني، لكن هذا القارئ الأخير تعني له الحرب ما تعنيه لـ"بيير"، وما تعنيه الحرب مع النازية، ثم عندما يقرأ "هنا الرفاق هم الكمين"، تحمل له كلمة "الرفاق" عدة دلالات، إحداها تعود إلى "رفاق بيير"، والأخرى إلى "رفاقنا نحن البشر" في كل مكان، لكنّها تحمل له كذلك دلالة "الرفاق" الشيوعيين الذين يحيطون به، وهو وَهُمْ في الحزب نفسه، وأنهم قد يغدون الكمين الذي يهدِّد وجوده، من خلال الوشاية أو الإقصاء أو التصفية في معسكرات الغولاغ. أما في حالة تولستوي ذاته، فقد يخيل إلينا كلينا أنا وذلك القارئ أن هذا الروائي المستبصر ينبئنا بأنه أدرك، بعد أن غاص في حياة النبلاء ودوائر البلاط، ابنًا عن أبٍ عن جَدّ، أنّ في مجتمعه، الذي طالما افترضَ فيه أن يكون حاضنًا فكريًا وأخلاقيًا، ما قد يكمن له، في صورة زوجة نافذة، أو رقابة أدبية، أو مجتمع يكيل له المديح لينتزع منه روحه.
لقد اكتمل هذا الكشف، لا من خلال لحظة تأملية مترفعة ومتجاوزة للواقع والتفاصيل، بل بخوض تجربة إنسانية، متجسدة، تُكابد التناقضات بعد التناقضات وتفككها وتعيد قراءتها وتركيبها. والقارئ الذي يعرف سياق الرواية، وله إلمام بأنساق النصوص المتناسخة في أصقاع الدنيا، وبسيرة تولستوي نفسه، وبمآسي الروس في ظل حكم الغولاغ، وبغزو صدّام للكويت، هذا القارئ يُدرك أن الرواية ليست مجرد إعادة سرد حكائي أو وصف لما رآه تولستوي وتخيّلَه، بل يستطيع أن يكشف فيها أشباح الكاتب، وأشباحه هو، وأشباح كهل روسي مقموع في قرية نائية في أوكرانيا السوفييتية.
بهذا المعنى، لا يكون البيت "كاشفًا" لأن فيه سرًّا، بل لأنه يُفجّر خبرات متراكمة. ولا يُنير الوجود لأنه يُشبه الوحي، بل لأنه يُظهر كيف يتسلل العدو إلى رداء الرفيق، وكيف يصبح السلام أخطر من الحرب، لا لأنه أهدأ، بل لأنه أكثر مراوغة.
انكشاف المعنى هنا لا ينطوي على استحضار جوهر غيبي، بل هو تحوّلٌ في موقف القارئ تجاه واقعه، وإعادة تشكيل للثقة، للرفقة، للعدو. ذلك هو الكشف الروائي الحق، لا كما يُفترَض في لحظة عبور نحو لحظة "الفتح الأكبر" الغائمة في معناها، بل كما يعيشه "بيير"، وتولستوي، وأنا، وكلّ مَن عرف أن الخطر في هذا العالم لا يُطل من بندقية وحسب، بل قد يتخفى في هيئة رفيق ودود.
هكذا، لا يُكشف الوجود في الرواية لأنه يتجلّى كالوحي، ولا لأن اللغة فيها تصمت كي تتهيأ للنزول اللدنّي عليها، بل لأن الرواية تكُدّ وتكدِّس، وتُراكم طبقاتٍ من الألم والتجربة والاحتمال، وتصنع للوعي مرايا تتقاطع فيها وجوه الأنا والآخر والعالَم، حتى إذا بلغ القارئُ حافة جملةٍ شعرية، كانت تلك الجملة كأنها زفرة الخاتمة في سيمفونية بشرية مديدة.
الكشف الروائي ليس لحظة بل هو زمَن، وليس ركونًا إلى العزلة بل هو مشقّة الدخول في التناقضات، والرواية لا تفتح الوجود لأن كاتبها أصغى، بل لأنه خاض فيها مع قارئه دربَ الانكشاف، بالمشاركة، لا بالانتظار.
وإذا كان ثمة مَن ينتظر من الشعر أن يَسْكُنَه الوجود، فإن الرواية، من تولستوي إلى كونديرا، لا تؤوي الوجود فحسب، بل تُدخِله في معمعة الحكاية، وتكشف أن رفاقنا في سفينة الأدب قد يكونون الكمين، لا لأن القصيدة أملَت ذلك، بل لأن الرواية هي التي جعلت القصيدة ممكنة.

عبد الواحد الأنصاري باحث وروائي.يمكن متابعة حسابه على منصة إكس: @abdulwahed1978

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page