top of page

صباح فارسي


كان كل شيء في حياتي يسير بالورقة والمسطرة، لا مجال للأخطاء. أصحو في السادسة يوميا وأنام بمجرد أن تشير الساعة للعاشرة. أيامي كلها بلون واحد، وروتين متقن.أتناول إفطاري الصحي ذاته، وأختار لباس مخصص لكل يوم من أيام الأسبوع. كانت خزانتي مثالية، فلكل يوم بدلة معينة وربطة عنق بلون مخصص، وحذاء تقوم الخادمة بتنظيفه ووضعه في مكانه المخصص. تتكرر الأيام والشهور والسنون، وأنا محافظ على ذلك الروتين الذي أرهق زوجتي الراحلة، والآن تقوم الخادمة بذات الترتيب دون نقاش. حتى أصناف الأطعمة كانت مخصصة ففي يوم السبت أتناول الأرز مع اللحم، الأحد للبامية مع سلطة الجرجير، الإثنين للمعكرونة مع قطعة من الدجاج، الثلاثاء للملوخية، الأربعاء للدجاج المشوي، يوم الخميس لمحشي الكوسا، أما يوم الجمعة ففي تمام الثانية ظهرًا، أتناول السمك مع الأرز بحضور ولدي اللذين يقضيان ثلاث ساعات قبل أن يغادراني للعودة في الأسبوع الذي يليه. حياتي كانت تسير بوقار عقارب ساعة تحترم صاحبها حتى ذلك اليوم الذي داهمني الأرق.
تجاوزت الساعة الثانية، الثالثة، الرابعة فجرًا. عقارب الساعة تتسارع وأنا أتقلب في فراشي. يغالبني النعاس ولا أستطيع النوم، جربت شرب كوب دافئ من الحليب ولم أفلح. مرت الدقائق ببطء سلحفاة كأنها ساعات، فلجأت إلى حيلة عدّ الخراف وانقلبت حياتي من يومها رأسًا على عقب. فالخراف التي كانت تقفز من فوق السياج، كان عليها أن تلتزم بالقفز إلى اليمين، حتى أعد وأعد ومن ثم أُجهد وأنام. بدأت العد واحد، اثنان حتى وصلت للخروف المخبول صاحب الرقم ثلاثين، لم يقفز من فوق السياج لليمين، بل قفز لليسار، وهو ينظر إلي متحديا مستهزئا بأنني لن أستطيع أن أمنعه من القفز لليسار، مما اضطرني للعد من جديد والعودة للرقم واحد، وأنا أفكر:
"كيف تجرؤ الخراف على التمرد؟"
أعدت العد وكانت الخراف مستسلمة- كَمَا يفترض أن تكون- حتى وصلت في العد للخروف رقم ثلاثين. هذه المرة كان أكثر فرحًا بقدرته على مخالفة أوامري. كان يحدق بي ذلك الخروف بفرو أبيض وقرنين قويين وعلى وجهه ابتسامة انتصار. لم يعلن خضوعه كبقية الخراف، بل كان يهز أيلته بغبطة بلهاء وهو يجتر بقية غدائه على مهل دون مبالاة. لم يكتف بذلك، بل بدأ في الثّغاء:
"مااااااء... مااااء."
عرفت من صوته أنه ليس سوى مجرد حمل غبي مراهق ليس أكثر، فكيف تجرأ علي وأنا قد جاوزت العقد الخامس من العمر. قفز لليسار، ارتفع صوته:
" ماااااااء... ماااااء."
حتى شعرت بثغائه في صوان أذني.
" الويل لك... لن تقفز لليسار... بل لليمين، أيها الملعون. "
سمعت صوتي وأنا أصيح به.
" الويل لك أيها الخبيث..."
جلست على السرير، أفكر كيف أحتال على النوم بغير تلك الطريقة، ولكن ما من مخرج. كلما أغمضت عيني تسارعت الخراف تقفز كلها لليمين ويأتي ذلك الغبي يمد لسانه في وجهي، حتى أنه كأنه يضحك علي من شدة تعبي. كيف أنه خرج عن السيطرة، وحين أغافله وأغط في النوم لدقائق يأتي في المنام يضرب الأرض بحوافره ثم يرفس بطني وتدوس قوائمه على وجهي، وقرناه تستعد لنطح رأسي، فأقوم من نومي فزعا، غارقا في عرقي، أصرخ:
" لا لااا."
ثم أجد نفسي في سريري وحدي.
سمعت الساعة تدق السادسة، نمت ساعة على الأكثر ثم استيقظت، ذهبت لعملي، وليس في تفكيري فكرة أخرى غير أن أعود للبيت وأنام، ولكن ذلك لم يتحقق. بل صار كابوسا يعكر منامي في كل ليلة، ولشدة الأرق أصبحت عيناي حمراوين. قل تركيزي، فأخذت إجازة مرضية من العمل. اعتذرت عن رؤية ولدي أيضا لذلك الأسبوع. حتى الأكل لم تعد شهيتي مفتوحة له. يتكرر السيناريو في كل ليلة، وذلك الخروف صار أكثر مشاكسة.
أحاول عد الخراف ويأتي الخروف المخبول يحرك رأسه نحوي ويهزأ بي ويقفز رغما عني لليسار، ولا أستطيع العد. راودتني فكرة. انتظرت طلوع الصبح بفارغ الصبر وحين أشرقت الشمس، خرجت لسوق الماشية وهناك بحثت عن خروف يشبه خروفي له نفس الأسنان، يخبط رأسه بعشوائية، ترفس قوائمه بتخبط، حينها قلت بيني وبيني ساخرا:
" تعال إلي تعال "
دفعت فيه أكثر من ثمنه بكثير. أحضرته للبيت. طلبت من البستاني أن يقيده ويجعل رأسه باتجاه اليمين فلا يستطيع الحراك سوى في الاتجاه الذي حددته له. نظر إلى البستاني مستغربا، ولكنه نفذ ما طلبت منه بالحرف الواحد، لم أرتح حتى تأكدت من وثاقه في ركن من أركان الحديقة.
حان موعد نومي. عدت لسريري. كررت طقوس نومي كاملة. أغمضت عيني، ولكن الخراف كلها لم تأت. غابت إلى غير رجعة، بعد ساعات من المراهنة على النوم، استسلمت. وقفت في الحجرة، ذرعتها جيئة وذهابا…
خرجت مسرعا للحمل الصغير، حللت قيده. عدت للنوم، عادت الخراف، وعاد خروفي الطيب. قفز لليسار فضحكت، ونمت ملء عيوني، كطفل أجهده اللعب.


صباح حمزة فارسي هي كاتبة وروائية سعودية، تحمل شهادة البكالوريس في الأدب الانجليزي من جامعة طيبة وشهادة قيادة التغيير من جامعة ولاية كنت الأمريكية، حازت على جائزة التراث الشعبي الحجازي من وزارة الثقافة، شاركت في عدة ندوات أدبية وأمسيات شعرية، لديها عدة مؤلفات منها شغف قلبي وشائك ."كاغنية ولها في السرديات: رواية "عازف القنبوس"، مجموعة قصصية "مخرج" وكتاب "حكاوي ستي رحمة.

الخروف الثلاثون

bottom of page