top of page

العقل والعاطفة بين السرد الأدبي والفلسفة: حوار متجدد

ريما ال كلزلي

تمكن الأدب منذ القدم من تشكيل صور للعلاقة بين العقل والعاطفة، محاولًا توسيع أبجدياتها. لم يكن الاهتمام بالعاطفة قاصرًا على مجرد التعبير بل منحها مضمونًا قيميًا ومعنويا، ينمق العواطف ويصقلها بالعقل من خلال النصوص المقدسة والفلسفة، يبرز بذلك كيفية فهم وتفاعل الأفراد مع العالم من حولهم. وهو ما يدفع للسؤال هل يمكن للعاطفة أن تكون مفتاحا للمعنى بعيدًا عن العقول؟
تعتبر العلاقة بين العقل والعاطفة إحدى القضايا المحورية في الفلسفة، حيث تسعى لفهم كيف يتفاعل هذان العنصران في تشكيل الإرادة البشرية وتوجيه السلوك الإنساني. في هذا السياق، تبرز آراء بعض الفلاسفة الذين قدموا رؤى متباينة حول تأثير العقل والعاطفة على المجتمع في إطار الدين.
عندما يتأمل الإنسان في حياته ينشغل عقله بمحاولة فهم ما يريد لتحقيق السعادة، فيعمل كأداة تحليلية في تحليل المعطيات وتحديد السلوك الذي يجب اتباعه لإيجاد الأهداف والمعاني في الحياة، أما العاطفة تتفق مع العقل بأنها تدفع الإنسان للبحث عن معنى لتحقيق شعور الرضى والكمال، لكن بدون خطط وتحليل إنما تعمل في أعماق النفس كمحرك داخلي أعمى، ليس بالضرورة أنه يهدي للصواب.
على الرغم من أن هيجل يعلي من شأن العقل باعتباره القوة التي تصوغ الأحداث وتوجهها، إلا أنه يعترف بأن العاطفة تلعب دورًا محفزًا لا يمكن تجاهله. في نظره، العاطفة هي الشرارة التي تشعل التغيير والتحولات الكبرى، بينما العقل هو الذي يوجه هذه العواطف نحو تحقيق غايات أسمى، ويرى هيجل العاطفة تمنح الحماس والقوة الدافعة للأفراد والجماعات لتحقيق أهدافهم، بينما العقل يضع الخطط والاستراتيجيات لتحقيق هذه الأهداف.
على النقيض من ذلك، يقدم ديفيد هيوم الفيلسوف المادي تصورًا يضع العاطفة في موقع القيادة للإرادة البشرية. يرى هيوم أن العاطفة هي المحرك الحقيقي للأفعال الإنسانية، وأنها تحدد ما نعتبره خيرًا أو شرًا. العقل، في هذا السياق، يلعب دور الخادم الذي يساعد في تحقيق ما ترغب فيه العاطفة.
هيوم يعتقد أن العاطفة هي التي توجه الأخلاق الإنسانية، حيث ترتبط مفاهيم الخير والشر بما يحرك مشاعر السعادة أو الألم لدى الأفراد. هذا الفهم يجعل من العاطفة العنصر المركزي في تشكيل القيم والتوجهات الأخلاقية، معتبراً أن العقل وحده غير قادر على إحداث تغيير بدون دافع عاطفي.
يقارب بينهما سبينوزا فيقدم رؤية متكاملة تجمع بين العقل والعاطفة في إطار واحد. فيعتبر أن العقل والعاطفة في حالة تفاعل وصراع دائم، حيث يسعى كل منهما للسيطرة على الآخر. هذا الصراع يؤدي إلى تطور العواطف لتصبح أكثر عقلانية ونضجًا مع مرور الوقت. فالعواطف ليست بالضرورة غير عقلانية أو سلبية، بل يمكن أن تكون عواطف عقلانية إذا تم توجيهها بشكل صحيح. ما يسميه "العواطف العقلانية" هو القدرة على محبة الذات والآخرين بطريقة مستنيرة، مما يعزز من بقاء الإنسان وازدهاره.
تساعد الفلسفة في فهم كيف يمكن للعقل أن يوجه العاطفة، وكيف يمكن للعاطفة أن تحفز العقل لتحقيق أهداف أسمى، ويمكن رؤية تأثير التفاعل بين العقل والعاطفة في كيفية تطور المجتمعات البشرية من خلال الأدب كذلك، فقد تمكن الأدب منذ القدم من تشكيل صور للعلاقة بين العقل والعاطفة. لم يكن الاهتمام بالعاطفة قاصرًا على مجرد التعبير، بل منحها مضمونًا قيمياً ومعنويًا، ينمق العواطف ويصقلها بالعقل. هذا التأثير يبرز في كيفية فهم الأفراد للعالم من حولهم.
في الشعر العربي، الحب العذري يعد مثالًا واضحًا على الصراع بين العقل والعاطفة. يعبر قيس بن الملوح، المعروف بمجنون ليلى، عن عاطفة جياشة تقوده إلى الجنون. يقول في إحدى قصائده:


أمرّ على الديار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا


يعكس هذا البيت مدى سيطرة العاطفة على قيس، حيث يصبح عقله عاجزًا أمام قوة حبه.
أما في "الثلاثية" لنجيب محفوظ، نجد شخصية كمال عبد الجواد تعيش صراعًا بين حبها ومبادئها العقلية. كمال يعبر عن هذا الصراع بقوله: "كانت الحياة بالنسبة لي عبارة عن معركة دائمة بين العقل والعاطفة."
علاقة كمال عبد الجواد بالعقل والعاطفة تعد من أبرز الأمثلة على هذا الصراع. كمال يعيش تناقضًا بين مثله العليا وعواطفه، مما يؤثر بعمق على شخصيته وحياته، حيث تجسد علاقته بعايدة شداد الصراع بين العقل والعاطفة. بعد فراقه عن عايدة، يفقد كمال شغفه وحماسه للأفكار التي كان يؤمن بها. يتحول إلى شخص غير منتمٍ، يشارك في الحياة العامة لكن بلا قناعة حقيقية، مما يعكس تغيرًا جذريًا في شخصيته. إن حب كمال لعايدة ليس مجرد تجربة رومانسية عابرة، بل هو «وجود بأكمله وحياة قائمة بذاتها».
يشبه كمال في حبه لعايدة عطيل في حبه لديدمونة، في مسرحية "عطيل" لشكسبير حيث يقول عطيل: "إني أحبك حتى لو هلكَت روحي." هذا النوع من الحب العميق يوضح كيف يمكن للعواطف أن تسيطر على حياة الإنسان، فتجلت العلاقة المتوترة بين العاطفة والعقل عندما استغل ياغو قدرة عطيل في تحريف الواقع وإقناعه بخيانة ديدمونة، بينما يعتمد عطيل على مشاعره القوية تجاهها، إلا أن ياغو تمكن من زرع الشكوك بأدلة عقلانية زائفة مثل المنديل، الأمر الذي يجعل عطيل يتجاهل العقلانية والمنطق، ويتخذ قرارات مصيرية مدمرة بناء على العاطفة وحدها. ويظهر الصراع الداخلي بين العقل والعاطفة لتنتصر العاطفة وتقوده إلى مأساة شخصية.
في "آنا كارنينا"، يعرض تولستوي مثالًا على كيف يمكن للعواطف القوية أن تدمر حياة الإنسان إذا لم يوجهها العقل. آنا المرأة الشابة التي لم ترض عن زواجها برجل أكبر منها وتتبع عواطفها عندما التقت بشاب أعزب وتقع في حبه رغم التحذيرات العقلية، مما يؤدي إلى مأساتها بانهيار حياتها عندما تخاطر بكل شيء لتعيش ما تعتقد أنّه الحب في أنقى صوره.
في "مئة عام من العزلة"، نجد العائلة تتوارث الصراعات الناتجة عن قرارات عاطفية غير محسوبة. هذه القرارات تُظهر تأثير العواطف القوية دون توجيه العقل، مما يؤدي إلى تكرار الأخطاء عبر الأجيال.
يبقى الأدب مجالًا خصبًا لاستكشاف التفاعل بين العقل والعاطفة، مبرزًا كيف يمكن لهذا التفاعل أن يكون مصدرًا للإبداع والتجديد، فالعلاقة بين العقل والعاطفة عنصر أساسي لفهم التاريخ الإنساني وتحليل مساراته المتنوعة من خلال الأدب، يمكننا فهم تعقيدات النفس البشرية وكيفية تحقيق التوازن بين العقل والعاطفة للوصول إلى مجتمعات أكثر ازدهارًا. الأدب يعكس لنا كيف أن العاطفة تحفز وتدفع، بينما العقل يوجه ويهذب فتتحقق الإنجازات الكبرى.


ريما ال كلزلي كاتبة روائية ، صدر لها خمس روايات وهي "جواهر كلنا في الانتظار"، "حكاية غرام"، "في فم الذئب" ، "شموس الطين" ، و"ميتافيرس." روايتها "نور وعتمات" تحت الطباعة، ولها ثلاث مجموعات نصوص شعرية ( حفل الطوفان- على حافة اليقين- في ظلال النور). لديها أكثر من خمسين مقال نقدي في مجلات وصحف متنوعة، ولها أكثر من سبعين دراسة لأعمال روائية عربية وعالمية نوقش بعضها عبر منصات زووم وأخرى منشورة.

bottom of page