top of page

عديلة

وعد محمد


"قيل: قويُّ هو الحُبُّ كالموت
قُلْتُ: ولكن شهوتنا للحياة
ولو خذلتنا البراهينُ، أَقوى من
الحبّ والموتِ" - محمود درويش


تنضج الشمس صبيّة في الصباحات، ترتحل الأسرة والعيون الناعسة من ظلّ لظلّ، على نار المواقد الهادئة يغلي على مهلٍ حليب وشاي، لذعة زنجبيل عند الرشفة الأولى؛ تأذن ببدايّة اليوم الطويل..
تتكئ على طرف الأسرة نسوة مُتقابلات تهمس احداهن للأخرى بتساؤل
الليلة العرس؟

تنظر الأخرى لأغصان الشجر المُتشابكة وتهز رأسها بتأكيد، وتهمهم أن الأمر لا يعنيها؛ تنفض رأسها كمن يبعد فكرة مُزعجة وتنهض من مكانها متوجهة للمطبخ القريب، تُقلب الطعام على الموقد؛ تضيف عليه ملحًا أكثر من اللازم وتطفئ النار عليه قبل أن يتم نضجه..
فاتها أن تفهم ما تحدّث عنه الإمام في خطبة صلاة الجمعة؛ رغم وضوح صوته وقرب الدار من المسجد. لم تغمض عينها طوال الليل حتى لا تراه مرّة ثانية بجلابيته ناصعة البياض وبالعمامة المُطرزة بخيط أزرق؛ خاطته يدها، كانت تحرس عمامته والشال في جيب المخدة؛ تُخرجهم في الليالي المُقمرة وتُعيدهم عند الفجر..
تجد نفسها في حوش منزله؛ حين يشرد بها الفكر، ترى النساء جلوسًا في دائرة تتوسطها مُغنية شهيرة تدق "الدلوكة"١، ترى غريمتها وسط الدائرة تميل وتنثني على صوت النغم، وذراعاه "هو" تُحيط بخصرها.. عالقة بأنفها منذ أن طاله الخبر رائحة المسك والصندل، وبفمها طعم حلاوة من "كعك" العرس منذ أن أنكرت ذلك الخبر.

مرت ببالها ذكرى لقاءهم الأول، عندما اختارت طريقًا خاطئًا للذهاب إلى الجامعة وتاهت، تعرّف على هويتها فورّ أن رآها. كانت أكثر اخوتها شبههًا بوالدها الراحل، وكان والدها مُعلمه المفضل؛ قدّمها على نفسه في المواصلات وحجب عن وجهها شمس الظهيرة بالدفتر الذي يحمله، وحدثها عن والدها؛ الرجل تكونتّ صورته ببالها من ذاكرة الآخرين..
ابتسمت هازئة من نفسها كيف أملت أن تقودها الطرق الخاطئة لوجهات صحيحة؟
تتابع صاحبتها شرودها بنظرات قلقة ومُشفقة، تطرق كتفها برقة لتُنبهها لصوت الرجال خارج المسجد
صلحي توبك وأرح نجهز الفطور صالح وحسن جايين
حاضرين العقد ما جايين
قالت عبارتها المبتورة، ثم تكورت على نفسها وأجهشت ببكاء خافت مكتوم، حين سمعت من مكبرات المسجد دعوة عقد قرانه يتبعها صوت الرصاص المُحتفي؛ لم يخرجها من وسط الخيالات والدموع إلا صوت العويل والبكاء الذي أصبح يجيء فجأة من كل مكان، ظنتّه في أول الأمر صخب حزنها، لكن الصوت كان صوت هلع طازج، لا حُزن مقيم.

نفضت رأسها لتُخرج منه صوت الدلوكة وصورة والعروس و"هو" وذراعاه وخصرها..
أمسكت بها صاحبتها وهزت كتفها بعنف وهلع
-نور نور في صوت بكا انتِ سامعة؟؟

لم تُمهلها فرصة للرد، ارتدت توبها على عجل وأمسكت بذراع نور التي تجر خطاها جرًا وكأن أقدامها التصقت بالأرض، تمشي صاحبتها بوجل وهي تهمهم بالذكر والدعاء "اللهم أجعله خير"، مشيّن باتجاه الصوت حتى وصلن إلى شارع المسجد، ثقل الهواء فجأة على رئة نور، صوت المغنية يأتيها باهتًا وبعيدًا تتغزل الأغنية بالعريس الأسمر مقرون الحاجبين وبجلابيته الناصعة المكوية؛ أثقلت الخيالات جسد نور فهوى وبقيت عيونها مفتوحة، شاخصة تنظر لذلك المشهد الأخير..
في شارع المسجد، فوق المئذنة العالية البعيدة يُعيد مرة أخرى المُنادي دعوته ويذّكر بمكان وموعد العُرس، فتؤجج دعوته تلك عويل النساء المتشحات بالتياب الزاهيّة، يرتفع عنقريب٢ أحمر مُزين فوق السواعد، مُسجى عليه شاب وسيم القسمات مقرون الحاجبين؛ تغص جلابيته البيضاء بدمه؛ يتدلى من الطرف كفه المُخضبة بالحناء والشال الأبيض المُطرز بالأهلة الزرقاء.

هوامش
* العديلة أو العديل والزين : قالب شعري وايقاعي يستخدم في الأفراح السودانية؛ يُبنى على مدح شخص العريس والعروس، ويتضمن وصفًا لمظاهر الفرح بالمناسبة.
١.الدلوكة: آلة إيقاعية شعبية سودانية تراثية، ارتبطت بالغناء الشعبي.
٢. العنقريب : سرير خشبي منسوج بالحبال مرتبط بالعادات التقليدية للزواج، ويستخدم أيضًا لحمل الجنائز.


وعد عبدالقادر محمد طالبة طب، وكاتبة سودانية مُغتربة مُهتمة بالتراث الثقافي والإجتماعي السوداني.

bottom of page