top of page

ليست مجرد نافذة

رجاء الغيثي


في ظلمة غرفتها الباردة المعزولة تماما عما يحدث خارج منزلها، فتحت مريم عينيها المرهقتين بمساحات سوداء تقبع تحت جفنيها تشي بليلة لم تكن قصيرة كان للسهر فيها الكلمة الأولى والأخيرة. توجهت نحو المغسلة وبأصابع نحيلة وأظافر دقيقة عليها بقايا آثار طلاء الأظافر رشت الماء على وجهها بعد أن رفعت شعرها بلا مبالاة. جففت وجهها وتحسست بأصابعها خطوط التجاعيد المحيطة بشفتيها، وككل صباح وبطريقة عبثية وضعت كحلا تجاوز أطراف عينيها بفعل السرعة التي وُضع بها. مررت أحمر شفاه وضغطت شفتيها للتأكد من ثباته. ارتدت قلادة عتيقة خاضت معها الكثير من معارك الخيبات، ولاكتمال الإطلالة وضعت أقراطًا صغيرة لا يراها إلا من اقترب منها لحد التماس الأنف بالأنف.
توجهت مسرعة نحو النافذة التي تتوسط منزلها والمطلة على زقاق لا يكاد يخلو من المارة برغم انعزاله عن الاكتظاظ الذي تغص به المدينة. سحبت كرسيا خشبيا. فتحت النافذة للنصف بحيث يمكنها النظر لما يحدث عن قرب ولكن بنصف إحاطة. اقترب صوت أقدام عاشقين من نافذتها: عاشق ممسك بيد محبوبته محاولا إقناعها بالانصياع له في أمر ما. وجهها عليه بوادر قبول خُلطت بحمرة ارتباك. هزت رأسها ورفعت كتفيها ثم خفضتهما حائرة. اتسعت عيناها ونشطت مخيلتها فيما أحكمت قبضتها على أطراف النافذة المتهالكة. خطا العاشقان خطوات حجبت الرؤية عن عينيها المشرعتين استعدادا لالتقاط ما سيحدث. نفضت العاشقة الحائرة يدها مغادرة ذلك الزقاق وبقيت الصورة الأولى في مخيلة مريم التي شطحت بها لمراحل أخرى وضعت فيها كلا العاشقين في قفص إثم لم يرتكباه.
مرت دقائق حتى تناهى لسمعها وقع خطوات أخرى مصحوبة بصوت أب يوبخ ابنه. لم تفهم سبب التوبيخ لكنها رأت الأب يرفع يده عاليا كعصاة خيزران صافعا الصبي بلا رحمة. أمسك يده ساحبا إياه مبتعدا عن مجال رؤية مريم ليحتضنه بعاطفة كل الآباء مذ خلق الله هذا الكون.
دق بندول الساعة الضخمة-التي ورثتها عن أمها ولازالت تضعها في ذات الزاوية منذ سنين- معلنا عن زحف الوقت نحو ساعات النهار المتسربة من بين أصابعها النحيلة. ألقت نظرة تبرم نحو الساعة، إنه منتصف النهار تماما. أرادت النهوض لكن لم تقاوم أذنها إغراء وقع خطوات في زقاقها. زمت شفتيها وبحركة سريعة مدّت عنقها لترى المار القادم. عضت على شفتها السفلى واتسعت عينيها متمتمة: "لليوم الرابع، وفي ذات الوقت؟"

كان رجل بثياب رثة يحمى رأسه من لسع الصقيع بقبعة صوف مهترئة تتدلى الخيطان المسلولة من جهتها اليسرى. يسير بهدوء غير آبه لما يحدث حوله، وبعد أن كاد يتجاوز نظرها سمعت رنين هاتفه ليخرجه من جيبه مختفيا عنها ولكن إحدى كلماته قفزت لأذنها "كما هي". لم تفهم شيئا وكانت هذه إحدى المرات القليلة التي تعجز فيها عن ذلك.
بعد مرور أكثر من ست ساعات سمعت أحدهم يصارع القفل لاقتحام منزلها، وبعد محاولات ليست كثيرة ملأ صرير الباب المكان. ارتعشت وركضت على رؤوس أصابعها نحو ساعة البندول الضخمة، وخلفها دسّت نفسها في تلك الزاوية المظلمة. شعرت ببيوت العناكب تلف وجهها، وببرودة الأرضية كمسامير تخترق قدميها. كادت تشهق بعد أن رأت الدخيل وهو يخطو نحو الساعة. وقف واستدار واضعا يديه على خصره ويُحدث شريكه قائلا:" ألم أخبرك أن هذا المنزل مهجور؟"
سارا نحو الداخل. فتشا كل شيء و أخذا كل ما يمكن الاستفادة منه. جردوا مريم من كل أملاكها. أمسكت بقلادتها وهي واقفة جامدة تراقب كل شيء كعادتها، ولكن هذه المرة لن تضع تخيلات من نسجها، فقد تكفل الغريب ذو القبعة الصوفية المهترئة بذلك.

رجاء الغيثي روائية وكاتبة مقالات ليبية مهتمة بمجال الترجمة. صدر لها رواية حرب القلوب عن دار النخبة. حائزة على جائزة محترف الرواية الليبية. يمكن متابعة حسابها على منصة إكس ragaalobaide@

bottom of page