top of page

الفطام

حنان العزاز

لطالما عُرفت بأني نباتية، لا أشتهي اللحم ولا أتذوقه ولا أهضمه، لكن يبدو أن الأمر اختلف في هذا اليوم.
اليوم أريد أن ألعق الدم، أن أقضم اللحم النيء وأمضغه وأتلذذ بدفئه وملوحته المشوبة بالمرارة. شهوتي تنبع من شعوري بالقهر، من تاريخي كأمَة مملوكة اشتروني وباعوني، ملكوني وأهانوني. ما أصعب أن تكون ذا شمم وكرامة لا يحس بها إلا أنت.
لعنتي كانت في قوة جسدي وضخامته؛ فقامتي تعلو بين الرجال، هذا ما خلق مني الأمة المثالية، أحمل وأتَحمّل وأتحامل على نفسي لكي لا أثور. أتقبل ما تقبله أجدادي فهذا هو قدرنا، خُلقنا لنقبله. أقوياء في ضعفنا و ضعفاء في قوتنا.
لكن اليوم هو يوم التغيير، يوم الثورة، وهو يوم الدم المراق.
لم يبدأ اضطرابي وهيجان مشاعر الانتقام في جوفي إلا اليوم. كنت قبل هذا مطمئنة في عبوديتي كما علمتني أمي وكما نويت أن أعلم صغيري. صغيري المسكين الذي ابتهجت لمولده. رعيته بعيني وفؤادي. لم أكن أطعم حتى يشبع، ولم أكن أشرب حتى يروى، ولم أنم ألا وهو مندس بجانبي. أتلذذ بدفء جسده وصوت تنفسه الذي يطمأنني أنه حي وأنه سيستيقظ في اليوم التالي ليلعب ويقفز ويغني ويملأ قلبي بالرضا.
لم أرد أن أفطم ابني عن الرضاعة، كنت أتمنى أن أرضعه إلى أن يكبر، إلى أن يستنكف عن التقام حلماتي. رضاعته تعني قربه مني، تعني أننا واحد، لا ننفصل، يبحث عني ليشرب وأبحث عنه لأسقيه. تدفعه بطنه إلي ويدفعني قلبي إليه. كنا مستكنين في حالنا، نطفة السعادة الوحيدة في عبوديتي كانت لحظات التلذذ بأمومتي. لكن يبدو أنه كان لسيدي رأي آخر.
"أما زال يرضع؟"
سؤال مفعم، يسأله السيد لخادمه، سؤال مصحوب بنظرة صارمة، ناقدة، موبخة. فهمها الخادم وهب لمعالجة الأمر مما أحرق قلبي وذكرني بأسوأ ما في عبوديتي، أن جسدي ليس ملكي. أقبل علي الخادم وفي يده روث و طفق يفرك الروث على ثدييي بعد أن سحب ابني بعيدا عني. كان الروث ما يزال دافئا، كان به خشونه، أشواك تخللت رطوبته وخدشت ثديي وروحي. ربط الثدي الملوث بخرقة كي لا يسقط عنه الروث .
لم أتألم من أنه يلمس ثديي، لم تكن تلك المرة الأولى التي يقرص فيها حلماتي، مات إحساسي ولم أعد أؤمن بأنها تخصني، هي كبقية جسدي ملك لسادتي. ما آلمني حين تناهت لأنفي رائحة الروث العفنة هو أن هذه الإهانة هي النهاية لرضاع ابني، سيكره ثديي ولن يقبل علي.. حرارة جسده كانت تغذيني لأعيش. صوت أنفاسه كان الرتابة التي تستكين بها روحي المتعبة.
دمعت عيني وابتعدت لأخفي دمعتي. أماشي الدمعة وتماشيني لتعزيني. ظننت أنها وحيدة لا أهل لها إلى أن ذرفت عيني حين أقبل ابني ليلتقم صدري ثم قفز بعيدا عني، منكرا رائحتي. تحقق لهم مرادهم، كما اعتدت. هذه الحياة هي جنتهم ولا بد. كيف يدعون "يالله الجنَّة"، ألا يكفيكم ما أنتم فيه من النعيم؟!
بدأ صغيري بالأكل ورضيت بقدري، استعدّت نفسي لرؤيته يسير على طريق البلوغ، تحمست لرؤيته ينمو ويتعملق.
ثم جاء يوم الرحيل.
ذهبت مع سيدي لأعينه كما اعتدنا، ابتعدنا، طال طريقنا. هل أحب سيدي؟ ربما! وربما كانت مجرد ألفة.هو مثل الأب، وهل نختار آباءنا؟ لم يكن يقسو علي ولم يك حنونا أيضا. ربما ربت على كتفي من حين لآخر ونظر إلى عيني إلى أن تلتقي عيني بعينه فيبتسم ويتغضن الجلد على جانبي عينيه مكونا أخاديدًِا عميقة تسجل كهولته. أحيانا يضربني بالعصا إن لم أسرع في خدمته، أحس بلسعتها على جلدي لكن اللسعة لا تصل إلى روحي التي اعتادت الألم. أطيعه لأنه سيدي ولا مفر من طاعته، هذا هو قدرنا.
لم ينغص علي إلا ابتعادي عن صغيري. كان أول عهدي بالبعد عنه. وأنا أبتعد تركت قلبي ليرفرف حوله، أملت أن يحميه. أن لا تصل أيديهم إليه. علمت بأنهم أرادوا به السوء وأنكرت على نفسي الشك. الشك بالنسبة لأمثالي رفاهية. وإن شككت، ما الذي بيدي لأفعله؟! كنت أراهم يلمسون أفخاذه ويعضون على شفاههم. بل إن راشدِا- ابن سيدي- كان أكثرهم إعجابا في ابني و تقربا منه، يكثر لمسه و يردد "يا زينه ماشاء الله!"، ينظر ابني إليه عاجزا عن الرد، وأخاف عليه. يعلم قلبي نواياهم لكن ضعفت حيلتي وكُبل جسدي بالعجز، فلا سلطة لأمثالي. قنعت نفسي بأنها ظنون وتركت قلبي مع فلذة كبدي، لم يبق في جوفي شيء لأستبقيه معه فرحلت مع سيدي مؤملة نفسي بأن أحشائي ستحميه.
كان أول عهدي بالبعد عنه، و آخره.
***
عدت، حين اقتربنا من بيوتنا أحسست بأن جسدي يطفو ليصل إليه، استأذنت سيدي بنظرة و أسرعت لرؤية وَليدي. تقافزت عيناي باحثة عنه. لا أثر، ولا رائحة. حينها علمت أن قلبي كان صادقا. سمعت صرخة عظيمة تبعتها حشرجة ولم أنتبه أن صدري زفرها. هل غادرت روحي جسدها ثم عادت؟! ربما. لكن ما لا شك فيه أني لم أعد أشبه نفسي بعد اليقين بأني فقدت ابني.
**
يصيح راشد مقتربا منها: "الناقة يا الربع، ذكوها قبل تموت."، ركض الخدم إليها يحمل أحدهم سكيناً خوفا من أنها تحشرج لتموت، رأوها وقد أزبدت و خرج من جوفها هدير كالرعد. طالت و عَرُضت، ولم تعد تلك المستكينة، كأنها قبيلة من الشياطين سكنتها وأخذت في التقافز في جسدها. تراكضوا إليها فزعين ومحاولين الإمساك بها يقودهم راشد لكنها أطبقت بفكيها على رقبته و أبت أن تفلته. انقضوا على رقبتها ليذبحوها آملين في تخليصه من قبضة الموت الذي تجلى في هجمتها
الشرسة عليه، لكن الرقبة التفت بالرقبة، و تفجرت الدماء من حيث يعلمون ولا يعلمون.

حنان العزاز هي أستاذ مساعد في قسم الأدب الإنجليزي في كلية اللغات بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن و باحثة في الأدب الإنجليزي و الدراسات الثقافية و الأدب المقارن. يمكن متابعة حسابها على منصة إكس: @um22w22

bottom of page