كل البيوت لا تسعني
آية جمال محيي
أقول لك،
تحسب أنني أبالغ
أو أن قولي على سبيل
المجاز أو الاستعارة،
فتقول إنك بيتي.
أقول إنك بيتي،
تطوي البلاد،
ويلمسني ظل،
لولا المسافة بيننا
لظننتها يدك.
في بيت ليس ببيتي،
أستلقي في غرفة مظلمة
على بلاط أصفر بارد،
أتلحف بمفرش حريري،
ووسادة صغيرة
تتسع لكتفي بالكاد.
رأسي الثقيل يميل
إلى الجانب،
فقرات عظمي تنوء
بما تحمله،
يديّ ترتقان قلبي،
سرب من النمل
يزحف على جلدي.
تفترسني نوبة فزع،
يتبخر وجهي المالح،
يصير غيمة أو بحيرة،
ينحني قلبي
على الأرض،
يمشي على أربع،
يتنقل من زاوية
إلى زاوية،
يصطدم بفنجانين
أو مقلتين.
يحمل معولاً في يده،
يحفر بئراً عميقاً،
ينزلق في جوفه،
يشرد بين الجرذان
والعناكب،
أنادي باسمه، أترجاه
أن يأتي إليّ
نظيفاً وكاملاً
كما كان.
أوعده أن ألمسه
كمن يلمس
وردة، أو يرقة.
تنكسر زجاجة
(أو قلبي)،
يزرق وجهي،
أفكر في لحظات
مريرة،
في الخوف والوحدة
والقسوة التي تغلف قلبي،
أفكر في أنني لو
اخترت مُسمى لحياتي
لكان "تشظي"
أو "هلاك".
أفكر في ذاكرة
مهترئة،
وزمن مؤجل،
عمر بأكمله
يثقل وزني،
(هل الزمن يدرك ثأره؟).
تؤلمني رؤية خيالي،
انعكاسي في المرآة،
آثاري في الباحة
(وعلى جسدك).
لا أحب العتمة،
أقول لك،
أحب أن تشبهني
بشمس
أو فيضان،
شيء ما مدمر
وقوي،
يخفق على أجنحة
الطير،
يُطعم الأفواه
الجائعة، والبطون
الفارغة.
يحب الله كقديس
ويموج في ثناياك
كعاشقة.
في الخارج، خلف سور حديدي
وشباك حديدي، وقمر حديدي
ونجوم تتراص في وهج،
احتشدت الذئاب في الحقل،
عوت كمن يفزع من نومه
أو موته الأبدي،
خدشت بيديها العشب الأخضر،
وندبة حمراء في قلبي،
جرحت سماء بلورية،
ووجهاً ملائكياً هانئاً،
يبرق ويعتم في الليل،
(لعله وجه رسول أو أخي
أو إله إغريقي حزين).
في الخارج،
قطار سريع يعود إلى بيته،
(أليس لي بيت مثله لأعود إليه؟).
خرائط جوجل لا تعرف،
ارتباك نظرتك لا يعرف،
الجبل والبحر بيننا، لا يعرفان،
يداي المصلوبتان على الأشواك
لا تعرفان،
سطوة يدك واحمرار عينيك لا يعرفان،
شعري المقصوص على كتفي لا يعرف،
البقعة الزرقاء على ذراعي لا تعرف،
فمي المفتوح على جهنم لا يعرف.
أدخل من بيت إلى بيت،
أقول: كل بيوت الأحبة بيتي.
كل البيوت لا تسعني،
تضيق بجسدي الضئيل،
تلفظني خارج رحمها،
طالما أن بيتك مغلق في وجهي،
طالما أن بيتك لا يعرفني،
طالما أن بيتك لا يعرف
نومي الخفيف، وسهد عينيّ،
دفء جلدي، وطيب طعامي،
رنة صوتي، وخفقان قلبي،
اختلال توازني، وتصلب عودي،
توهج روحي، وحُرقة صدري،
بكائي الشجي، وذبذبة عقلي،
دفة كتبي، وتهتهة لساني.
كل البيوت لا تسعني
طالما أنك تتلعثم في اسمي،
وتُشبهني بغرابة سوداء،
أو فأل أسود.
وتغمض عينيك عن رؤياي،
تبتعد بخطواتك، تلوذ
بامرأة أو شيطان.
في الخارج
غربان وضباع
يأكلان بعضهما البعض،
يفترسان جثة رجل،
لولا الشعر الأسود
والعينان البنيتان،
لظننته أبي،
وأطلقت بصري في الفراغ،
وأقمت على روحه
مأدبة،
وطبخت بيديّ الوارفتين،
وعزمت نديمي الوحيد،
وأربعة من الغزلان،
(وأكلنا كبابًا مشويًّا،
ولحم الضأن،
وكل ما يمقته فمي)،
وشربنا كؤوساً من الخمر،
بنهم وشراهة،
لا تليق بمن يعلن
حداده أو يأسه،
فقط تعكر صفو الموت
وقدسيته.
لولا الأطفال الصغار،
وآيات الغفران والوعيد،
وشق صغير في جبهتي،
لحنيت شعري بالأحمر،
وملأت فمي بالحلقان،
وملابسي بالألوان،
وسقيت عطشي بالمعصية،
ونهمي بالحلوى،
ورأسي بالأغاني،
ومشيت من درب
إلى درب،
أخلع عني رداء العار،
وأقايض ألماً بشفاه،
وشفاهًا بشفاه،
وحباً بحب،
وحياتي بحياتك.
ولا أقول ثانية:
"عشت أكثر من نصف
عمري،
وأنا أشعر بأن أحداً
سلب مني حياتي،
استبدلني بآخر
جرعني مقلباً سخيفاً
ومضى،
يحمل رقبتي في يديه
ويقول:
ها هي وديعة الرب
أرجعها إليك،
فلتقبلها يا رب،
فلتأخذها إليك"
ويبتسم.
آية جمال محيي شاعرة وكاتبة من مصر. يمكن متابعة حسابها على منصة إكس: @AyaGamalMohey