طويق في عيني ألاكسيا
رشيد ورشاد التلاوي
إصدار: دار محبرة تبوك
رواية وثائقية
عدد الصفحات: ٣١٥ صفحة
كارلوس: أسرعي أمتعيني بها، فكلّي شوقٌ لسماعِها من ثغركِ المتبسِّم!
ألاكسيا: في ليلةٍ صافيةٍ من ليالي الصَّحراء المتلألئة، قعدتُ على الرّمال ذاتِ الملمسِ الحريريِّ، حيث أنّي قلتُ لها أخبريني قصَّةً من القصص الَّتي تفخرونَ بها والَّتي تدلُّ على شهامةِ أبنائكم.
استلقينا على ظهرِنا والسَّماء فوقنا والسُّكون يملأ المكانَ، ومن ثمَّ نظرت نُورَة إلى النُّجوم الوضّاءة، وسرحَت بعيدًا وسرحتُ معها فتأمَّلت وأردفَت قائلةً: "هناك الكثير من القصص، إلاَّ أنّني سأخبرك بهذه القصّة الَّتي أحبُّها وتعني لي الكثير".
كان في قديمِ الزَّمان فتاةٌ جميلةٌ إذا خطرت مالتِ الأشجارُ إلى حسنِ وجهها، وصفَّر الطَّير إلى جمالِها طربًا، وإذا وقفَت وقفَ جريانُ الماء لوقوفِها، وإذا مشَت تبسَّمت الخضرةُ من تحتِ نعلِها، يتيمة الأبِ والأمِّ ربَّتها إحدى القبائل العربيَّة في العراق حتّى كبرَت، وتقدَّم إليها أحدُ شباب القبيلة فتزوَّجها، وأسكنها مع والديْه وعائلته، ومع مرورِ الزَّمن وقسوتهِ بدأت حياتها التَّعيسة، فقد عاملوها أسوأَ المعاملاتِ وضربوها تارةً، وتارةً أخرى طردوها من المنزل، كانت تعيشُ حياة الخدم بل أسوأ من ذلكَ، فقد كانوا يعيِّرونَها بأنَّ لا أصل لها ولا سندًا.. وفي يومٍ من الأيّام الأليمة الَّتي كانت تعاني فيها تلكَ الفتاة كعادتها، اتَّجه الفارسانِ "دوَيْحس بن عريعر" و"عبدالمحسن بن سرداح" ومَن معهم من آل حميد إلى المنطقة الَّتي تعيش فيها تلكَ الفتاةُ الَّتي تدعى "شمّا"، وأثناء الطَّريقِ إذْ بهم يسمعون صوتَها وهي تبكي بكاءً يفطرُ القلوبَ ويُدمع الأعينَ، فتقدَّم الأمير "دوَيْحس بن عريعر" من ذاك الأنينِ فوجدَها منهارةً وتعيسةً، فأناخ فرسه وعقلَها، ومن ثمَّ عطفَ على الفتاة وواساها ببعضٍ من الكلمات علّها تحيي بعضًا من روحِها الميّتةِ، وإذ بها تستجمعُ قواها وتمسحُ الدُّموع عن خدَّيْها وتخبره بقصَّتها، وبعد أن سمع من ثَغرها تلك المعاناة والظّلم الّذي تعيشه مع عائلة زوجها قال لها: "يا أختاه لا تحزني فقدرُ الله ولطفه قد أتى بنا من هذا الطَّريقِ، فقومي إلى بيت زوجكِ وعندما تلمحيننا مِنْ بعيدٍ اصرخي وهلِّلي بنا، وكأنَّنا إخوتكِ وقد جئنا لزيارتك".
فرحت "شمّا" فرحًا عظيمًا وتولَّدت من داخلها أنوار السَّعادةِ والأمل، وأخذت تركض كالفتاةِ الصَّغيرةِ عائدةً الى منزلها، وما إن تقدَّم "عبد المحسن بن سرداح" ومن معه إلى منزلها، حتّى بدأت بالتَّرحيب والتَّهليل بأعلى صوتِها قائلةً: "أخواني جو أخواني جو"، وما إن سمعَ أهلُ القرية وعائلةُ زوجها باستغرابٍ هذا الصَّوتَ الصَّادح الى عنان السَّماء، تقدَّموا منذهلينَ ممّا سمعوا، فهم يعلمون أنَّ "شمّا" ليس لها أيّ أخٍ أو نصيرٍ، فانذهل القومُ مِن هؤلاء الفرسان الّذينَ تبدوا عليهم ملامح الأمراءِ بلباسهم المبهرِ ومنظرِهم اللّافتِ، يترنَّمون كالملوك على خيولهم العربيَّة الأصيلة، فقامت "شمّا" باستقبالهم وإدخالهم المنزل وسطَ ذهولِ زوجها ودهشة أهلهِ، وكيف لا يندهشونَ وهم الَّذين يعلمون عِلمَ اليقينِ أنَّه لا أصلَ لها، فخاف زوجُها من هؤلاء الفرسانِ، وما كان منه إلّا أن طلبَ منهم على عجلٍ أن يستضيفَهم في منزلهِ فرفضوا ضيافته، وبان على وجوههِم الغضبُ، وطلبوا منه أن يطلِّقَ أختهم وأن ترجعَ معهم، فهم الذَّين أتوا بناء على طلبِها، فلقد أرسلَت لهم لنجدَتها منَ العذاب والقهرِ الّذي تعيشه، وما إن رأى الزَّوج تلك الحدَّةَ في نبراتهم والغضب يجتاحُ وجوهَهم، حتّى استدركَ الأمر نادمًا متوسّلًا ومستعطفًا منهم أن يقبلوا توبته قائلًا: "أرجوكم سامحونا فهي حبيبتي وأمُّ عيالي، ولا أستطيع الاستغناء عنها.."، ثمَّ التفتَ إلى زوجته طالبًا منها العفوَ والَّسماحَ ولها ما شاءَت، فقال له "عبد المحسن بن سرداح" بصوتِ حادٍّ وحكيمٍ: "سأُبقيها عندكَ ولكن بشروطٍ، أن لا تذلّها وأن لا تأمرها بما يفوقُ قدرتها، ولك منها أن تقومَ بواجب الزَّوجةِ تجاهكَ وتجاه المنزل، وإن علمنا غير ذلكَ فسنأتي في المرَّة القادمةِ، وسيكون عليك عقابٌ وخيمٌ ولن يبقى أحدٌ من أهل بيتكَ".
فوافق الزوج ذاعنًا لكِّل شروطهم ومطالبهم ثم أردف "عبد المحسن" بالقول: "الآن نقبلُ ضيافتكَ"، وبعد الغداء سُمع أصواتٌ وصراخٌ في القرية فعلموا منَ الزَّوج بأنَّ مجموعةً من اللُّصوص تقوم بسرقةِ بيتٍ ومواشي على أطرافِ القرية، فتفاجأ "عبد المحسن بن سرداح" وقال: "لماذا لم تقوموا لتردُّوا اللُّصوصَ؟!".
فقال الزّوج: لا قدرةَ لنا عليهم، فهم دائمًا ما يأتون لسرقتنا، وكلَّما حاولنا ردَّهم قتلوا منّا ونكَّلوا، فهم أكثر عددًا وسلاحًا.
غضب "عبد المحسن بن سرداح"، وقام مسرعًا إلى فرسه صادحًا بأعلى صوته: "وأنا أخو شمّا"، فقام الفرسانُ من آل حميدٍ خلفه ولحقوا باللُّصوصِ وقتلوهم شرَّ قِتلةٍ، وكانَ ممَّن يشاهد تلك الملحمةَ زوج شمّا وأهلُ القرية، ففرحوا فرحًا عظيمًا، وكانت "شمّا" أشدَّهم بهجةً وفرحًا، وبعد أن أعادوا الماشيةَ لأهل القرية قام "عبد المحسن" وأمر بقيَّة الفرسان بالرَّحيل لإكمال الطَّريق، وبعد تلك الوقعةِ قيل أنَّها عاشَت بقيَّة حياتها عزيزةً مكرَّمةً يدعونَها أهل القرية "الشَّيخة".
ألاكسيا: شعور لا يوصفُ من تلك القصَّة الَّتي عشتُها وكأنَّني بطلتُها.
وبعد نهارٍ مُضنٍ رجعنا إلى المنزلِ ودخلنا الغرفةَ، وضعتُ رأسي على الفراشِ ونمتُ نومًا عميقًا أنساني كلَّ تعبي.. تمَلمَلتُ لبرهةٍ في فراشي ثمَّ جلستُ أستمتعُ بهذا الصَّوتِ الرّائع الَّذي دخلَ وتغَلغلَ إلى أعماقِ مشاعري وقلبي، فملأه حنانًا وشوقًا. وما إن انتهت نُورَة من صلاتِها ابتسمت لي، ومِن ثمَّ جلسَت على الفراشِ بجانبي قائلةً: يا ألاكسيا إنّه "الأذان" فهو يشعرنا بالدّفءِ والرّاحة، آذنًا بدخول نهارٍ جديدٍ لنؤدّيَ فيه صلاتَنا وشكرَنا لهذا الإله العظيم الَّذي أعادَنا إلى الحياة.
ألاكسيا: يا أالله.. كلًّ يوم أُدهَشُ أكثرَ وأكثرَ بدينكم العظيم. فأنا أعلم يا نُورَة أنَّكم تؤدّون خمسَ صلواتٍ في اليوم واللّيلةِ.
نُورَة: أستميحكِ عذرًا يا صديقتي، أحتاجُ إلى هنيهاتٍ قليلةٍ لأصلّيَ الآن الفريضةَ، ثمَّ ننزل فنعِدّ الحليبَ السَّاخن مع الشّاي "كرك"، لأنَّ والدي قد اعتادَ على شربِه بعد عودته منَ المسجدِ.
ألاكسيا: حسنًا يا صديقتي.
وبينما كانت نُورَة تصلّي، جلستُ أتصفَّح مواقعَ التَّواصل الاجتماعيِّ، وأرسلُ صور تلكَ المغامرةِ الَّتي أعيشُها في تلك اللَّحظات الرّائعةِ مع هذه العائلةِ، وأكتبُ فرحتي وشوقي إلى عائلتي وأقربائي وإلى العالَم بأسره... وما إن انتهتْ نُورَة مِن صلاتِها حتَّى جلستْ تدعو اللهَ وأنا أتأمَّلها بخشوعٍ تامٍّ.
ألاكسيا: إنَّ ما أذهلني يا كارلوس، أنّها تقوم في اللَّيل لتصلّيَ وتدعوَ ربَّها مع أنَّها تستطيعُ النّومَ، ولكنَّها آثرتِ المناجاةَ لربّها، فهذا الأمر أفرحَني كثيرًا. وما إن انتهتْ من صلاتها حتّى خاطبَتني بعينيْها اللّامعتيْنِ وكأنَّها تُحاكي ألفَ حكايةٍ وحكايةٍ، إنَّه السِّرّ الكامن بين العبد وربّه. أخبرَتني أنَّها لحظاتٌ يتجلّى بها الله سبحانه وتعالى إلى السَّماء الدُّنيا في الثلثِ الأخير منَ اللَّيل ويقول: "هل من داعٍ فأستجيبُ له؟ وهل من سائلٍ فأعطيه؟".
لقد كنتُ أرى والدي يقومُ ليلًا ليُناجيَ أبانا الَّذي في السَّماءِ، فأسمعه يتَمتِمُ ويهمسُ بكلماتِ ويقول: "ليتقدَّسِ اسمكَ، ليأتِ ملكوتك، لتكنْ مشيئتكَ، كما في السَّماء كذلك على الأرضِ، خبزنا الَّذي للغدِ أعطِنا اليوم، وأغفرْ لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبينَ إلينا، ولا تدخلنا في تجربةٍ، لكنْ نجِّنا من الشِّرير بالمسيح يسوع ربّنا، لأنَّ لك المُلك والقوَّة والمجد إلى الأبد، آمين".
أنا لا أدري.. إنْ كانتِ الأديانُ متشابهةً إلى هذه الدَّرجة، فلماذا الإعلام يُرينا عكسَ ذلكَ؟
كارلوس: الإعلام يا صديقتي دائمًا ما يوجّه جُلَّ كلامه واهتمامه إلى ما هو سلبيٌّ عن الإسلام، بل وحتَّى عن كلِّ ما هو جميلٌ في هذا الكونِ، وكأنَّ الكون كلّه قتلٌ ودماءٌ وتشريدٌ.
فقاطعته ألاكسيا متسائلةً: ولمَ؟
كارلوس: إنَّها السّياسةُ، والأطماعُ الَّتي يحضّرونها للعربِ ليستَولوا على ثرواتهم، ولقد شاهدتُ مقطع فيديو في قمَّة الرَّوعة، كيف أنَّ الأميرةَ "أميرة الطّويل" شرحت معنى كلمة "الله أكبر"، فقد وصفَتها وصفًا معاكسًا كلّيًّا لما كنّا نظنُّه، أنَّ كلمةَ الله أكبر تقالُ للقتل والدِّماءِ.. إنَّها كلمةٌ تتغَلغَلُ في الشَّرايينِ فتجعل مستمعَها يعيشُ لذَّةً ونشوةً روحانيَّةً لا مثيلَ لها، وأنا أحبُّ دائمًا أن أسمعَ هذا الأذانَ، فبسماعه أشعرُ براحةٍ نفسيَّةٍ لا مثيلَ لها.
ألاكسيا: آه لقد تذكّرت قول أَبو فَهد لمّا كنّا نتسامر ونتناقش عن موضوعِ التّشدُّد والقتل بحجّة الدّين، فقال لي "يا بنيّتي نحن نعود إلى العهد الأوّل إلى ما كنّا عليهِ من عدل ووسطيّة وإسلام وسطيٍّ معتدل ومنفتح على كلّ الأديان وعلى العالم أجمع".
كارلوس: لقد لامستُ ذلك من أصدقائي المسلمين، وإنَّ عمّتي رحمها الله كانت متزوّجة من رجلٍ أحبّته بصدقٍ، وعاشت معه قصّةَ حبٍّ جميلةً، دارت أحداثها ما بين المسجدِ في مقام النّبي يوشع، ومنزلهما الملاصق له في منطِقة المنية في وطني. كانت متعلّقة به. من شدّة حبّها له، تَصعد معه دائمًا للمسجد وتهتمُّ به كالطّفل الصّغير، وآثرت بأن تجعل آخر رمقٍ من حياتها على درج المسجد بعد صلاة الفجرِ، لتعانق روحها عنان السّماء.
تابعت ألاكسيا سرد قصّتها لكارلوس: قالت لي نُورَة: "هيّا بنا، ننزل بسرعة ونحضر كوب الشّاي العدنيِّ الَّذي اعتاد والدي أن يشربَه كلَّ صباح.
أدهشتني تلك الفتاة العربيَّة حينما ذهبتْ وأحضرَت "المبخرة" واضعةً فيها البخورَ بالعود، وقامت بتبخير البيت كلّه، شارحةً لي فضائل البخور على النّاحية النفسيّة والجسديّة بحدٍّ سواء،وهذه من عاداتِ أهل السّعوديَّة والخليج".
هكذا كانت استفاقتنا الصّباحيَّة الأولى، فقد جلسْت مع نُورَة أتلذَّذ بشرب القهوة بالهال، الذي أحضره أَبو فَهد فأردف بالقول: أكرميها يا بنيّتي، وقدِّمي لها هذا التّمر"، ثمَّ وجَّه كلامهُ إليّ قائلَا: حينما علمتُ أنّك ستأتين إلى بلادنا أخبرت أحدَ أقاربي أن يرسلَ لي تمرًا من الإحساء والخرج والقصيم، فهو من أجودِ أنواع التُّمور في المملكة. ثمَّ إنَّ واحة الإحساء تذهب تمورُها إلى الدّيوان الملكيِّ وأنتِ أميرتنا اليوم في المملكة. وأثناء كلامنا وإذ بصديق أَبو فَهد "عبد الرَّحيم الزَّرعوني" يتصل به من الإمارات فيرد أَبو فَهد: يا هلا ومرحب حيّا الله صديقي أبو محمد "دَحّوم". (كما يسميه جميع أصدقائه المقرَّبون).
دَحّوُم: يا مرحبتين صباحك نور وسرور وعافية، شحالك يا بو فهد؟ وش حال عيالك وهلك؟
أَبو فَهد: أبشرك كلنا بخير ونعمة، ومتشرفين بزيارة صديقة بنيتي من اليونان.
دحّوم: والله! يا مرحبا بها، وبتوصلكم قهوتي اللي تحبها يا بو فهد.
أَبو فَهد: قهوتك مَرَّرره طيبة وما أنسى طعمها، إذا بترسل البُن ضروري تعلمني طريقتك في تحضيرها؟
دحّوم: السِّرُّ في البُن.. قهوتي بنها من محمصة صغيرة في واحة الذيد التابعة لـِ "إمارة الشّارِقة".
أَبو فَهد: الله على الذيد ونخيلها وماها العذب وأهلها الطيبين.
دحّوم: نرجع للقهوة يا بوفهد، هههههه، قهوتي بُنها سيلاني، الحَب الكبير فهي بنظري الأنسب لقهوتنا الشقراء.. أحَمِسّ البُن على جمر بالطريقة القديمة واطحنها (بالمنحاز والرِشاد)!
أَبو فَهد: وش المنحاز والرِشاد يا بو محمد؟!
دحّوم: الهاون يا بو فهد، الهاون!.. اطحنها طحن خشن.. واغليها من 3 إلى 5 دقايق.
أَبو فَهد: وش قنادها عندكم؟
دحّوم: أبَدْ! ما اقنِدها لا بهيل ولا مسمار ولا زعفران.. قهوتي مثل ماهي، فالزعفران يزيل حموضة البن والمسمار يثقِّل الطعم.. خلها خفيفة واضمن ضيفكم يشرب الدلة بكبرها، هههههه.
أَبو فَهد: هههههه، بنقهويها من قهوتكم.
أبو محمد: عليكم بالعافية.
وإذ بأُم فَهد تتّجه صوبنا ملقيةً علينا تحيّةَ الصّباح، فيقوم أَبو فَهد مقبلًا عليها بابتسامته المعهودةِ، ومن ثمَّ قبَّل رأسَها والبسمةُ تزيِّن ثغره ماسكًا بيديه، أجلسها على الأريكة قائلًا: "هلّ الصّباح علينا هلّ، وبعد ما نام القمر الشّمس بانت متل الفلّ".
أُم فَهد: صبحك الله بالنور والسرور .
أَبو فَهد: أخبريني يا بنيتي، بماذا تشتهر بلادكم؟
ألاكسيا: يا عمّي.. إنّ اللّغة اليونانية من أقدم اللغات، وفي بلادنا الجميع يشرب القهوة وهي المشروب الرسميّ عندنا ونعدُّ من أكثر الشعوب إستهلاكا للقهوة في العالم، وإنَّ بلادنا تشتهر بالزَّيتون والعنب، فهي تُصدِّر أفخمَ أنواع النَّبيذ المحلّيِّ، والّذي يتميَّز بنكهةٍ تختلف عن كلّ نكهات النَّبيذ في العالم، هو خليطٌ بين الحامض والأسود ويسمّى "شينومافرو". وتشتهر أيضًا بالنّبيذ المنزليِّ الصُّنع المقطَّر الَّذي يدعى "تسبورو". كنتُ أحبُّ أن تتذوَّقوا طعمَه من أرضنا المقدّسة، ولكنَّني أعلم أنه محرَّمٌ في دينكم ولا تشربونه.
أَبو فَهد: "الله يحييكي"، صدقتِ يا بنتي، فهو من المحرَّمات في ديننا، وإنَّ المملكة لديها الكثيرُ من الموارد الطّبيعية المهمّة، وبجهودِ حكومتنا نتطلَّع للاستثمار خارجَ السّعوديَّة، وسنصدِّر الفراولة إن شاء الله تحقيقًا لرؤية 2030 في المجال الزراعي، لذلك قامت الوزارة بتوقيع اتفاقية مع مزرعة الكعيدية لِمالِكها صالح الكعيد، لتنطلق الشراكة بين الجِهات الحكومية والقِطاع الخاص، وأسّست المملكة شركة "سالك" للاستثمار وتحقيقِ الأمن الغذائيِّ خارجَها في 21 دولة، ودخلت شراكةً مع شركاتٍ عالميّة واستحوذت أسهمًا عدَّة، تحقيقًا للأمن الغذائيّ وضمانِ استدامته.
نُورَة: لقد ذُكر العنبُ والزّيتون أيضًا في "القرآن الكريم"، ونشتهرُ بزراعة النّخيل، ففي منطقةِ الأحساء، شرق السّعوديَّة، الَّتي تعتبر واحةً من الجمال الَّذي أبدعه الله ﷻ، وبحورًا من النّخلِ الباسقاتِ الَّتي سُجّلت في اليونيسكو للتّراث العالميِّ كأكبر واحة نخيلٍ في العالم، وتضمُّ أكثر من 3 مليون نخلة منتجة للتّمور.
أَبو فَهد: وادي الدواسر من الأراضي المهمّة لزراعة القمح والبرسيم والبطاطا والذرة والحمضيات والنخيل وتستخدم مملكتنا نظام الريّ المحوري وهو عبارة عن رشاش مياه تتناوب على نقطة معينة على مدار الساعة وتعدُّ منطقة "جازان" يا ألاكسيا من أهمِّ المناطق الزّراعيَّة على مستوى المملكة لما تذخر به من مقوّماتٍ طبيعيَّة ووفرة المياهِ المتوافرة، وتشتهر بزراعة البنِّ الَّذي ينتشر على المرتفعات الجبليّة، وزراعة المانغو كَـ "بالمر وبريو وزبدة وجلن" وغيرها. ورغم أنَّنا لسنا الأفضلَ بها ولكنّنا نمتلكُ حوالي 800 مزرعة، وتقامُ المهرجاناتُ السّنويَّة لتسويقِ منتجاتها. والمانغو والبرتقال واليوسفي في العلا، وملوخيّة المدينة ووادي فاطمة، وأبشركِ يا ألاكسيا لقد بدأت منطقت الجوف بزراعة الزيتون من بداية 2007 ودخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية العالمية، لاحتوائها على أكبر كميَّة لأشجار الزَّيتون في العالم.
ألاكسيا: بلادنا أيضاً تنتج الزيت الفاخر.
نُورَة: زيتوننا ينتج 70% من زيوت العالم، وقد بدأت المملكة بزراعته على الأرصفة، وسيتمُّ مستقبلًا زراعة أكثر من مليون شجرة لتكون وقفًا للمحتاجين.
وقف أَبو فَهد متحمسًا وأردف بالقول: وأنا سأُوقفُ في سبيل الله عشرةَ آلافٍ من أشجار الزيتون وسأوصي عليها خصيصًا من بلدك اليونان يا ألاكسيا.
ردّت ألاكسيا قائلةً بفرحٍ: ما أجمل عملك الخيِّر يا عمّاه.
فأردفت نُورَة قائلةً: كما أنَّ أمير منطقة الباحة الأمير مشاري بن سعود بن عبد العزيز بن سعود أطلق عام 2013 مبادرة "نحو العالمية" لدعم زراعة الرمّان وتصديرُه إلى الخارج.
أُم فَهد: أمس جايبين رمّان من إنتاج مزارع المليداء بالقصيم، حجمهُ كبير جدًّا وأحمر.
أَبو فَهد: الله لا يخليني منكي يا أُم فَهد، فشجرةُ الرُّمّان تزرعُ بين النخيلِ والأشجار، لأنَّها تحب الظِلّ .
أتبعت ألاكسيا قائلةً: إنَّ في فيريا سهلٌ من أكثر السّهول إنتاجًا للفاكهة والخضروات، ومعروف أنَّ اليونان مشهورةٌ بالماء، فكيف تستطيعون سقايتها وبلادُكم صحراء قاحلةٌ ولا يوجد عندكم أنهار؟
أَبو فَهد: إنَّ مملكتنا مليئةٌ بالينابيع، والواحات التي تكفي، وأكرمنا الله بهذه الرؤية 2030 التنموية التي تستهدف زيادة المياه المحلّاة، وبفضلِ الله تمكنت المملكة من تسجيل رقمٍ قياسيّ في غينيس كأقل محطة تحلية في "الشرقية" إستهلاكا للطاقةِ المتجددةِ والصديقةِ للبيئة في العالم ونستغلّها للسّقاية، وستُنتِج شركة (سورس جلوبال) 2 مليون قارورة مياه سنويًّا، المُستخلصة من بُخار المياه العذبة في الهواء. وحفر أطول نفق في العالم لنقل المياه المحلّاة في الطائف .
نُورَة: وكان من كلام سيدي ولي العهد "عانينا في المملكةِ من التصحُّر وشحّ الأمطار وموجاتِ الغبار المتكررة، ومنذ عام 2016م عمَلنا على رفع نسبة المحميّاتِ الطبيعيةِ من 4% إلى ما يزيد عن 14%"، وعندنا أيضًا مياه زمزم المباركة، وحتّى قطراتُ المياه المباركةِ التي تتساقط من وجوه المتوضئين ستكونُ سمادًا لترويَ عطشَ أشجارٍ ستزرع حول الحرمِ المبارك. وليس هذا فقط، بل يوجدُ بئرُ "هداج" المباركُ الَّذي ذكِر في الإنجيل، وهو من أشهرِ الآبار في جزيرة العرَب، ويُعدُّ من أكبر الآبار وأقدمها في العالم.
ثمَّ دار حوار بين ألاكسيا وأَبو فَهد، فأردفت ألاكسيا بالقول: "يا عمّ، منذ مجيئي إلى السّعوديَّة وأنا أسمع عن دورِ المرأة والتّطوّر في مجتمعكم".
أَبو فَهد: بفضل الله أدوارنا متكاملة، الرجلُ والمرأةُ يكمِّلان بعضَهما. فديننا الإسلاميُّ أعطى لكلِّ فرد حقوقًا وواجباتٍ، وقد أتى الإسلام لينصفهنَّ، فهنَّ نصفُ المجتمعِ وأكثرُهن أمّهاتنا وبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا. وهنَّ فخرنا بينَ المجتمعات، فقد اهتمَّت المملكة وقيادتُنا الحكيمة كثيرًا بالعنصرِ النّسائيِّ، وبنت لهنَّ جامعة الأميرة نُورَة بنت عبد الرّحمن، والتي تعدُّ من أكبر الجامعاتِ النّسائيَّة في العالم، والتي تضمُّ 32 كليةً وقطارًا يقطع مسافة 11 كيلومترًا، وتديره نساء.
نُورَة: سأخبرك معلومة أيضًا يا ألاكسيا ستصدُمكِ! أتدرين أنّ أوّل امرأةٍ أسّست أوّل جامعة في العالم هي القرشيّة "فاطمة بنت محمّد الفهري القيرواني" (رحمها الله)؟
بدت على ملامح ألاكسيا علامات التّعجّب لهذا الصّرحِ العلميّ العظيم، فأردفت قائلةً: "أيعقل أنَّ امرأةً عربيّة هي من أسّستها؟ إنّهُ لأمرٌ يدعو إلى الحزن أنَّ الإعلام أضاعَ حقَّ أمثال تلكَ الشّخصيّات العالمية".
التوأمان رشيد ورشاد التلاوي كاتبان روائيان. رشاد مغترب في السويد ويعمل كشيف، بينما رشيد هو طبيب أسنان.