top of page

اتجاه عكسي

نسرين البخشونجي

من الفصل الأخير
رواية
الناشر: دار المحرر
الإصدار: 2024 م

صديقتي..
"القلب يتغير وقلب القلب لا يتغير والحزن قلب القلب".
لثلاثة أشهر أجلس على المقعد أمام باب غرفتك في المستشفى، ليس مسموحًا لي بالدخول. أمكث مدة الزيارة المعتادة وأنا معزولة تمامًا عن كل ما يدور حولي. لا أرى سوى صورتك ولا أسمع سوى صوتك. الصوت الحقيقي الذي اعتدته وليس ذلك الصوت المتقطع الذي سمعته قبل ساعات من انهيار صحتك. ذكرياتنا تدور في رأسي، سنوات تمر أمامي كفيلم سينمائي طويل لا أملك إيقافه لأحذف لحظات ألمك. ولكن الانتظار الطويل علمني كيف أصنع حوارًا من طرف واحد. وكيف أكتب لك خطابات لم ولن تقرئيها.. خطابات بجناح واحد!
الموت ذلك السؤال الوجودي الذي ليس له إجابة. في طفولتي كنت أنظر إلى السماء وأتخيل أن النجمات ما هي إلى أرواح خرجت من حيز الجسد الضيق إلى البراح. أتساءل هل يشعر الإنسان قبل وفاته بقرب الرحيل؟ ومن أجل العثور على إجابة صرت أفتح صفحات الذين رحلوا. أقرأ كلماتهم أقلب في صورهم علّني أفهم. لكن بعضهم يذهب فجأة دون وداع. يريحني أن أحلم بالموتى، أصحو وقد امتلأ قلبي بالفرح لرؤيتهم.
* * *
بالأمس، قبل موعد زيارتك في المستشفى. ذهبت بالأولاد لإجراء اختبارات قبول بإحدى المدارس، أجرب نظامًا تعليميًّا جديدًا كالعادة، النظام الذي إذا جربته سأكون قد أنهيت تجربة كل الأنظمة التعليمية المتاحة في مصر. أثناء الامتحان الطويل، خرجت مديرة المدرسة من الغرفة أكثر من مرة وعلى وجهها ابتسامة عريضة لتحدثني:
-   ولادك رائعين، أنت لازم تكوني فخورة بيهم.
المدرسة جديدة ستبدأ في العمل السنة الدراسية القادمة، تحديدًا بعد أربعة أشهر من اليوم. يقلقني أنها بعيدة جدًّا عن البيت، وأنا من اعتدت أن أنظر من شباك غرفتي لأرى المنطقة التي تبعد عدة كيلومترات عن بيتي، لأقول لنفسي اطمئني فهما بخير.
يحافظ أصحاب المدرسة الجديدة على نظافتها بشكل مبالغ فيه. شاب بجسد نحيل وبشرة حنطية ليس له أي وظيفة سوى أنه يجوب غرف المدرسة بممسحة ذات مادة منظفة برائحة اللافندر الذي يفوح من كل اتجاه. في يده بخاخة داخلها سائل عديم اللون والرائحة يرشه على الباب الزجاجي فيسقط الذباب ميتًا. بعد كل اختبار في مدرسة جديدة يزورني الأمل في أن تكون تلك محطة النهاية. تذكرتك وأنا هناك حين قلتِ لي:
-  ربنا يقطعها عادة!
ثم تضحكين كالطفلة!
* * *
منذ أجبرتنا إدارة مدرسة "الأحرار" التي أمضى فيها ياسين ومسك أفضل أوقاتهما على الانتقال لمدرسة أخرى، بدأنا ننزلق في بئر المدارس ذات المصاريف المرتفعة. منذ البداية كنا ندرك أن فئة هذه المدارس لا تناسب ظروفنا وإمكانياتنا المادية. كشباب نرغب في ادخار بعض المال من أجل الوفاء ببنود كثيرة. حين بدأت في البحث عن مدرسة جديدة كانت كل الخيارات تدفعنا نحو ما يطلق عليه مدارس class A، بعد كل زيارة لمدرسة أعود إلى المنزل وفي يدي كتالوج "الوعود" وفي اليد الأخرى ورقة بالمصاريف المدرسية. بالمنطق لم يكن علينا المضي في هذا الطريق، ومع ذلك لم تكن لدينا خيارات أخرى.
- لما ندفع المبلغ ده سنويًّا في المدرسة هنعمل إيه في مصاريف الجامعة؟
قال أحمد متذمرًا.
بسبب عمله في القطاع الخاص نضع في ذهننا دائمًا أنه ربما يتم الاستغناء عنه، خاصة بعدما اجتاحت الكورونا عالمنا، ولكني في كل مرة أعود محملة بالأمل أننا سنجد ملاذنا في المدرسة الجديدة، وأن كل شيء سيكون على ما يرام.
لم نستطع أن ندفع أقساط مدرسة "المستقبل" في موعدها تمامًا، كنا نتأخر حتى نقوم بجمع مبلغ القسط وندفعه في أوان قسط آخر. التوتر يؤرقني بسبب تصرفات إدارة المدرسة، في المرة الأولى أغلقوا منصة المدرسة التعليمية التي أتابع عليها كل تفاصيل اليوم الدراسي لياسين ومسك، أتواصل مباشرة مع المدرسين، أرى صورهم، أعرف ماذا اشتروا من كانتين المدرسة. ارتحت قليلًا حين تمت إعادة فتح المنصة بعد دفع القسط الأول. أما في موعد القسط الثاني، تم سحب الأجهزة الإلكترونية التي سلموها للأولاد في بداية العام الدراسي، أخذوها منهم بحجة إضافة بعض التطبيقات الجديدة. عدم وجود الجهاز كان يساوي نقصًا في الدرجات لأنهم يقومون بالدراسة اليومية من خلالها، كذلك الواجبات المنزلية، المشاريع والامتحانات. أجبرني هذا التصرف على بيع خاتم عزيز على لقلبي أهدته لي جدتي يوم زفافي. حين دفعت آخر قسط شعرت بالارتياح.
اليوم، اتفقنا مع صاحب المدرسة الجديدة على أننا لن نلتزم بالمواعيد الرسمية لدفع الأقساط ولكننا سننتهي من دفع المصاريف قبل انتهاء العام الدراسي. كرجل أعمال يعرف تمامًا الظروف الاقتصادية التي يمر بها البلد، وافق على طلبنا ووعدنا ألا تتخذ الإدارة أي إجراء يشعر ياسين ومسك بالحرج.
ندور في حلقة مفرغة ضاغطة ولا مفر. يلومني الجميع، يتهمونني بالجنون ولكني اخترت أن يكون تعليم أولادي هو الوعاء الادخاري الأمثل. وكلما ضاقت أتفهم سبب رغبة أحمد في السفر، ولكني كما قلت لك سابقًا لا أريد أن أعيد قصة أمي ولا أريد أن يتحول أحمد لشخص غريب علاقة بلا روح ولا ذكريات.
***

أحب أن أغني. قلتِ لي ذات يوم إن صوتي جميل بعدما أرسلتُ لكِ مقطعًا من أغنية لفيروز. وأنا أعتبر أن رأيك هذا حقيقي. الغناء يحررني أعيش مع كل أغنية حالتها أنسج من كلماتها قصصًا في خيالي. في مراهقتي غرت من إحدى المطربات لأنها غنت قصيدة لنزار قباني ولحنها كاظم الساهر، ما زلت أذكر مشاعري وأنا أشاهدها على المسرح تشدو وإلى جوارها كاظم، لا أنكر أن صوتها جميل وأنها تستحق ما وصلت إليه. الغناء حرية، حياة وثورة.. وحدي أشدو. أدندن في المنزل وأحيانًا وأنا أتمشى في الشوارع خاصة بعدما أصبحت كمامة الوجه تغطي ملامحي!
هل قلت لك إني غنيت مرة في إحدى غرف كلوب هاوس، لا أعرف من أين أتتني الجرأة. تحمست كثيرًا وغنيت مقطعًا من تتر مسلسل "حضرة المتهم أبي" رافقني أحدهم وحولناه لدويتو.
"نازل وأنا ماشي عالشوك برجليا وأنت السبب يابا ياللي خليت بيا".
- أنا الآن حرة!
قلتها لنفسي.
***
صديقتي، أصابتني الكوابيس ليلة أمس.
اليوم بالذات فكرت فيك حين صحوت من النوم، فكرت فيك قبل الرشفة الأولى من فنجان قهوتي الفرنسية. بحثت عن أول رسالة مكتوبة بيننا وتذكرت أول لقاء لنا في الزمالك. وأول مكالمة مساندة منك حين بدأت مشكلة ياسين في المدرسة الأولى. علاقتنا التي تطورت على المهل مثل القهوة.
أزعجني ألا أملك أي رسالة صوتية منك، قبل عام اشتريت هاتفًا جديدًا اكتشفت أني فقدت كل مراسلاتي القديمة على الواتساب لأني لم أقم بإحدى الخطوات التي تؤمن لي الاحتفاظ بكل محادثاتي.
فتحت صفحتك على الفيسبوك، حاولت أن أعود للوراء قبل أن يتسلل السرطان لجسدك النحيف. مررت على كل الصور التي نشرتِها، مثل آخر صورة سيلفي لنا. ضحكت من تلك الصورة لسيارة فولكس فاجن القديمة، كادر تصويرك جعلني أظن أنها سيارة حقيقية وليست لعبة. أحب صورك لأنها مختلفة في حضورها مثلك، وكأنها قصة أقرؤها.
توقفت كثيرًا عند آخر ما كتبتِ:
"أحاول أن أصنع رائحتي الخاصة ليذكرني بها الأصدقاء، ربما ستكون مزيجًا من نعناع الشاي وتحويجة القهوة الصباحية مع قليل من زهر الياسمين والفل أو زهور مسك الليل التي تفوح في المساء فقط".
ومع ذلك لم أفهم الإشارة بل وملأني الأمل في عودتك.
-   عملتِ عملية جراحية زي المرة اللي فاتت ومر كل شيء بسلام، وعدت لحياتك وبيتك وأبنائك.
حدثت نفسي.
تمرنت كثيرًا على هذه اللحظة، كمشهد سينمائي أديته ببراعة لشهور وأيام! أستحضر اللحظة وأستدعي الحالة ثم أقول لنفسي أنا جاهزة. حين حان الوقت، ومع شهقة دهشة لم أتمرن عليها.. تجلى الوجع في أقسى صورة. ترى هل كنت تودعينني حينها؟ ومن أين أتاني الرجاء وأنت في اللحظة ذاتها تحتضرين. يا لقسوة الأمل حين يملأ روحنا بغير الحقيقة!
لماذا خذلتِني اليوم يا إيمان؟

نسرين البخشونجي هي كاتبة وصحفية حرة مصرية مهتمة بالشأن الثقافي. عضو اتحاد كتاب مصر. تنشر حوارات صحفية ومقالات في عدد من المطبوعات بمصر مثل جريدة المصري اليوم، جريدة القاهرة، جريدة أخبار الأدب، مجلة إبداع، ومجلة عالم الكتاب. بالإضافة إلى مجلات وصحف عربية مثل مجلة المجلة، مجلة العربي، مجلة الرافد، مجلة الشارقة الثقافية، ومجلة البحرين الثقافية. صدر لها عدد من الروايات والمجموعات القصصية، ولها كتاب تحت الطبع بعنوان: "كل شيء سيرتي..كل شيء خيالي.. حوارات مع كتاب من القارات الخمس"


bottom of page