top of page

مقدام بن يعيش

عبدالواحد الأنصاري

من فصل بعنوان: توقيت سيئ للحب
نوفيلا:
الناشر: دار رشم للنشر والتوزيع
الإصدار: 2024م

انتهت المحاضرة، وجرى بيني وبين إحدى الطالبات حديث على الهامش، تلاه تناول قهوة في مقهى قريب، وصرنا نتحدث في الأفنية والطرقات، قبل أن أعود إلى شقّتي، حيث تنتظرني امرأتي.
لم تكشف لي هذه الطالبة شخصها الحقيقي، أعني: لم أعرف عنها أي شيء يذكر، لكنني أحسست من سلوكها ومداومتها الدائبة على شرب القهوة معي، أحسست بأنها تحاول إقناعي بأن الوقت مناسب للحبّ.
كانت متعطشة جدًا، وكأنما تفجرت ينابيعها للتو، وتبدو على استعداد للمغامرة، وكأنني وإياها نقطن غرفتين ملتصقتين في فندق، لا يفصل بينهما إلا باب داخلي مشترك، وفي يدها مفتاح ذلك الباب.
كانت تكذب عليّ، ولم أكن أصدُق معها.
ذات مرة اختلقت لها قصة عن أسفاري إلى الصحاري والقفار والغابات، فوجدَت الفرصة سانحة لتعلّق:
لماذا تريد أن تعذّب نفسك؟ عش حياتَك؟ جرّب شيئًا من الأسفار المريحة، أن تغامر مغامرات صغيرة، كلقاء مختلس، أو حب عابر.
قلت:
أسافر لأنني أريد أن أعرف إلى أي مدىً أستطيع الابتعاد، وعند أيّ عقبة أعجز عن التحمّل.
حدثَ ذلك عندما كان جسداي، أنا وزوجتي في حالة استنفار، حالة من تلك التي قد يكون من شأنها أن تفسّر كيف استطاعت البشرية أن تنتصر على البكتيريا بأعجوبة هي لؤلؤة فريدة مستخلصة من محارات القدر.
إنني أتذكر الآن أن طالبًا شابًا قليل ذات اليد في تلك الآونة، وفي تلك المدينة، كان يحدثني بأنه يقرأ الكتب وهو يتظاهر بتصفحها على أرفف المكتبات، وأحيانًا يخفي الكتاب في موضع غير المعتاد، ليعود إليه ويكمل القراءة.
قال هذا الشاب إنه قرأ قصّة عن فتىً يلتقي بحبيبته المرة الأولى في مقهى، لم يكن الفتى يمتلك شيئًا يذكر، وكان يُضطرّ إلى أن يمسح شعر رأسه بلعابه لكي يلبّده وهو يمر من أمام المتاجر، وزجاجها يلقي بتموجاته على وجهه في العشيّات الخانقة.
كان ذلك أول موعد له مع فتاته في المقهى، وفي اللحظة التي كانت مناسبة للبوح، بعدما استعدّت الأنثى لجلسة صفاء، واحتشدت فيها مقوّمات الانبلاج العشقيّ، عندها: تلوّت أمعاء البطل في بطنه كالثعبان، وأرادت أن تقذف بما فيها دفعة واحدة، فتلوّن وجهه ألف لون، وتغشّت قسماته إيماءات بين الحسرة والخيبة والغضب والاحتضار والتململ، وراح ينظر إلى التي تتحدث إليه بكل تحبّب، وهو زائغ النظرة عنها.
وحين أرادت أن تلطّف الجوّ وتلفت انتباهه، وهي لا تعلم ما به من كرب: أدت تلك المحاولة إلى تأزيم اللقاء، وشعر فجأة بأنّ في الأمر مكيدة، ولهذه الكائنة دور فيها، فتسربت النقمة إلى وجدانه المضطرب، وألقى عليها بضع كلمات متقطعة من طرف أنفه، من تلك التي يلقيها شخص متعجرف يوشك أن يفوته اجتماع إداري مصيريّ مهم، ولا يمكن تأجيله. ثم نهض وترك لها الطاولة فارغة، من غير أن يدفع الحساب، وانطلق يجري ملتويًا كأمعائه على الرصيف بين جموع البشر التي تمشي الهوينى، كما يركض سارق اختطف لتوّه قطعة مثلجة من بائع المثلجات وهو يخشى في الوقت نفسه أن تندلق على ثيابه وتذهب مخاطرته الجنائية أدراج الرياح.
لقد أصدر الغائط حكمًا مبرمًا لا رجعة فيه بالتفريق بين المُحبَّين.
وعندما دخلت تلك الطالبة حياتي كنت مريضًا، يلتهب محيط أعضاء جسدي الحرجة بالخراريج، أجلس على الكنبة، ووركاي يلتهبان بحمّى موضعية مشتعلة.
أما زوجتي فقد أظهرت نتائج الأشعة أن لديها شبهة ورم في الطّحال، وظللت أنا وهي شهرًا ونصفًا ندور بالسيارة في المدينة الصفراء جيئة وذهابًا، بعد أن نضمّخ جسد ابنتنا، المصابة هي الأخرى بطفح جلدي، بمرهم العيون، ونرفع مستوى التكييف، ونغطيها بملاءة خفيفة، ونربت عليها، ريثما تهدأ بشرتها وتسمح لها بالنعاس.
ننطلق بعد ذلك في الشوارع شبه الهادئة بعد الساعة الحادية العاشرة ليلًا، وأدور ملتفًّا يمينًا وشمالًا، أتفادى الإشارات المرورية بالانسياب في الممرات، وألوي ناصية سيارتي في مسارب مدينة الأغيار وزوجتي تتقد بالحمى إلى جانبي، وأخوض بها عباب الظلمة، لنركن السيارة في النهاية إلى جوار بناية مسلحة قديمة، حيث تنتظرها إبرة مهدئة في غرفة بمستشفى خاص.
كان الطبيب ذو الرطانة المبهمة يستغل الموقف بأن يوحيّ إليّ وإليها، بزخرف القول، أن ما تعانيه هو حصاة في المثانة، وأن كل ما عليها هو أن تكثر من شراب "بدوايزر" وتعود إليه كلما انتابها الألم. كان مفعول الإبرة يستغرق أربعًا وعشرين ساعة، وفي أثناء انسكاب المهدئ في عروقها يعبث المضمّد في جزيرة خُرّاج وركي اليسرى بمقصه المعقوف ومطهّر جروحه، ويواصل عمله الذي يجري في عمق سنتيمترين داخل طيّات اللحم الممزّق، وهو ينخرط مع الممرضة في الحديث بابتهاج عن الأطباق الطائرة، وحين تصدر عني انقباضة مفاجئة تخبرني ملامحه الحازمة بأن عليّ أن أكون جامدًا.
وينقضي التشريح شبه اليومي، الذي يستغرق أحيانًا ستّ دقائق بطول ست ساعات، ويعود القطن واللاصق إلى موضعهما، فأنتعل حذائي الشرقي الغريب برجل غير ثابتة، وأتجه إلى رفيقتي في الغرفة الأخرى وأنا أرتجف من تنمّلٍ يسري في جميع مسامي، وقد قفّ شعر جلدي من الوجع المبرّح. وعندما تبدأ الشعور بالارتياح، أكون أنا قد أقبلت إليها من الضماد، وأنا أبحث في عينيها عن نظرةٍ تنبئني بأن السائل الشفّاف أدّى مفعوله، فتغشاني سكينة مؤقتة: ها قد أُمهلنا أربعًا وعشرين ساعة أخرى.
إنني أتذكر الآن ذلك، وأتخيلنا شخصين، معهما رضيعة نائمة أو شبه نائمة، يأتيان بمحض إرادتهما كل يوم إلى غرفتين متجاورتين: إحداهما للتخدير، والأخرى للتعذيب، ويريحان ابنتهما الغافية، إن أحضراها معهما، على مقاعد المستشفى. لكنني لا أتمادى في هذه النظرة السوداوية؛ صحيح أن تلك الأحداث أدّت بمجموعها إلى طلاقنا فيما بعد، غير أنني لست أندم عليها؛ لأنني عندما أعود إليها أجد أننا كنا نسير رغم ضياعنا التام في الاتجاه الصحيح، ذلك أن سبيل النجاة لا يمكن لها إلا أن تكون اتجاهًا صحيحًا.
ظللنا نخبط العشواء في الليالي البهيمة إلى طبيبنا ومضمّده وممرّضته حتى اعترته لحظة إيمان أو تأنيب ضمير أو غفلة، فأخبرنا بأنه يجب عليكما أن تجريا تحليلات شاملة، وعليها أن تمر تحت أشعة للحجاب الحاجز، وإلا فهي قد تكون معرّضة للوفاة.
ودلّنا على مستوصف صغير رخيص يقع على مبعدة خمسة كيلومترات، داخل أحياء العصابات. وهناك كان جهاز الأشعة الصوتية فيه بدائيًا، وكأنه لعبة صُنعت لطفل عملاق سريع النمو، وليس جهازًا طبيًا حقيقيًا، إلا أن الموظفة قالت لها:
الطّحال متضخّم، سأكتب لك التقرير وعليك أن تبحثي عن مستشفى محترم.
أما أنا فاهتديت إلى مضادّ حيوي، دلني عليه، عبر مكالمة هاتفية، شاب يدرس الجراحة وألاقيه في البار أحيانًا، وظللت أعبّ منه ما استطعت في اليوم والليلة، وأنام نومات إغمائية بين جلساتي على أفلام آرنولد وفاندام.
دخلت زوجتي المستشفى بعد مراجعات عدة، وأجريت لها فحوصات عاجلة، وأُخبرنا بأن معدل الهيموغلوبين في دمها أقل من خمسة، وحرارتها دون الأربعين بقليل، إذ كنا قد قضينا يومًا ونصفًا دون أن نمرّ بالطبيب الطيّب.
ما هو أشدّ أسىً: أنه كان يغلب على ظني أنني التقطت البكتيريا من الطالبة المتوثّبة، زميلة القاعة وصاحبة المقهى، وهذا يعني أنني لم أخض هذه المغامرة لكي أعرف إلى أي مدى أستطيع التغلغل، وعند أيّ حد أستطيع التوقّف، وإنما صنعتُ من نفسي قنبلة جرثومية، ثم عدت ونزعت صمامها في وجه عائلتي التي تستقبلني بالأحضان.
كان جسدي ونفسي وعاءين ينوآن بما فيهما من الألم، متكافئين ككفّتي الميزان، وكان ما فيهما يلوب على حوافّهما مثل زيت ثقيل يكاد أن ينكفئ من إناءين مملوءين ومكشوفين في صحن شاحنة تسير على نتوءات أرض وعرة. وكانت تلك الأشهر، فعلًا، توقيتًا سيئًا للحب.

عبدالواحد الأنصاري باحث وروائي ومُراجِع سعودي، صدرت له العديد من الروايات والمجموعات القصصية والمراجعات، وبحوث أخرى

bottom of page