مغامرة غير مقصودة وبطاقة بريدية ضائعة
سمية السيد
خلال رحلة فنية مع زملاء لي لحضور أسبوع الفنون في باريس بشهر أكتوبر الماضي، خرجت في مغامرة غير مخطط لها حول مكتبات باريس بحثًا عن كتاب للكاتبة سيمون ڤيل وآخر للكاتب هرمان هسه، في حين ظننت أني سأجدها في أول مكتبة. في ذلك اليوم الخريفي البارد خرجت معي زميلة لي في الرحلة تعمل في مجال الفنون، والتي توطدت علاقتي بها في تلك المغامرة.
بينما كنا نمشي في شوارع باريس متبعين ما تمليه علينا خريطة غوغل لوجهتنا، كانت السماء ملبدة بالغيوم، والجو ثقيل، وبارد ورطب. بدأت رحلة البحث بمكتبة شكسبير آند كومباني التي تبعد خطوات من كاتدرائية نوتردام. عند وصولنا وجدنا صفًا طويلًا من السياح ينتظرون أمام باب المكتبة، ساعتئذً لم تكن لدي رغبة في الانتظار، بالأخص لأني زرت المكتبة من قبل في زيارتي الأولى لباريس، لكن تخليت عن الفكرة بعد أن عرفت أن زميلتي لم يسبق لها زيارة المكتبة من قبل. فقررنا أن ننتظر ونستمتع بوقتنا طالما أننا جئنا. جلسنا في الجلسات الخارجية المظللة في مقهى المكتبة بينما كانت السماء تمطر هتانًا استمر طوال اليوم. طلبت هي قهوة سوداء، وطلبت أنا لاتيه اليقطين. كانت على الطاولة بين أكوابنا ورقة عليها أسئلة مارسيل بروست. تسلينا بالأسئلة أثناء الانتظار، كانت هي تسأل سؤال ثم أجيب عليه، ثم اسألها أنا فتجيب. وبين كل سؤال وآخر نأخذ رشفة من القهوة وننظر إلى صف الانتظار الذي تقلص شيئًا فشيئًا مع المطر. عندما دخلنا المكتبة سألت عن الكتب، فأخبرني البائع أنها غير متوفرة بينما عرض عليّ كتب بديلة متوفرة. تجولت قليلًا في المكتبة وتصفحت بعض الكتب، بينما اختفت زميلتي عن ناظري. تقابلنا بعد مدة من الوقت عند الكاشير، فوجدت معها عدد لا بأس به من الكتب، وخرجت أنا خالية الوفاض.
اقترحت عليها أن أجرب حظي في مكتبة أخرى قريبة، مكتبة ذا آبي، فأبدت قبولها للفكرة ومشينا إليها. حين دخولي وسؤالي عن الكتب، أبدى الرجل الذي يعمل فيها حماسًا للبحث عما أريد، فطلب مني أن أتبعه. مشيت في تلك المكتبة الصغيرة بين رفوفها الخشبية ورائحة صفحات كتبها المستعملة. نزل إلى الدور السفلي وهو يحني رأسه لانخفاض السقف فتبعته بخطوات حذرة من ضيق السلالم. لكن دون طائل، لم أجد الكتب! اقترح عليّ مكتبة أخرى وهو يتمنى لي أن أجد فيها ما أبحث عنه.
مشينا إلى المكتبة المعنية متبعين خريطة غوغل، ثم إلى مكتبة أخرى اُقترحت عليّ بعدها لأجرب حظي فيها. دخلت مكتبة العربة الحمراء- ذا ريد ويل بارو- كانت تعمل فيها شابة وسيدة بدت في الخمسينات من عمرها. كلتاهما كانتا متحمستين بعد أن حكيت لهما عن الساعات السابقة التي طفت فيها من مكتبة لأخرى مع زميلتي التي شعرت أني أتعبتها معي. أخبرتني الشابة أنها رأت نسخة من الكتاب ربما تكون الأخيرة. وبخطوات سريعة تسلقت سلمًا خشبيًا مثبتًا على رفوف الكتب، وظللت أنا أنظر إليها من الأسفل متأملةً أن تنزل ومعها الكتاب، لكنها لم تجد آخر نسخة لديهم. عوضًا عن ذلك، نصحتني برواية جديدة قائلة أنها ستنال إعجابي بعد أن شاركتها عناوين لكتب قرأتها في الفترة الأخيرة.
اشتريت الكتاب الذي لم أخطط لشرائه، وخرجنا إلى آخر مكتبة للكتب المستعملة الانجليزية؛ مكتبة سان فرانسيسكو. في تلك المكتبة لم أجد ما أريد، لكن قبل خروجي لفتتني زاوية في المكتبة فيها بطاقات بريدية معروضة للبيع. مشيت إليها والحماس يتملكني، بينما كانت زميلتي تنتظرني خارج المكتبة. ظللت أقلب في البطاقات بحثًا عن شيء لا أعرف ما هو. كانت البطاقات بعضها جديدة وبعضها مهترئ وقديم. وجدت بطاقات بريدية تحمل أسماء مرسلها ومستلمها، وصدف أن تكون أحد تلك البطاقات أُرسلت في أكتوبر، نفس الشهر الذي تقع فيه البطاقة في يدي مع فرق الأيام! لم أستطع أن أهضم فكرة الخروج دون شرائها بالرغم من أن ما فيها كُتب بالفرنسية وهي لغة لا أجيدها. فكرت فيمن كتبها؛ ربما لم تخطر في بالهم فكرة أنها لم ولن تصل للشخص المعني، أو أنه سينتهي بها المطاف في يد شخص غريب من بلد آخر. تملكني الفضول لاحقًا لمعرفة ما كُتب في أحد البطاقات فحاولت ترجمتها باستخدام ترجمة غوغل، لكن لم تكن محاولة ناجحة، ففهم خط صاحبها بدا لي كفك شفرة، فاستعنت بصديقة لي تتحدث الفرنسية فترجمتها لي:
صباح الخير مدام لويس،
نحن سعيدات جدًا والطقس جميل
لقد زرت الأكواريوم ورأيت الأسماك والثعابين
وقمنا بجولات على البحر ونحن سعيدتان
كل الحب
كاميليا وكلاوديا
في اليوم الذي يلي المغامرة، وبعد جولة في معرض للفنان بيكاسو، اشتريت بطاقة من متجر المعرض تحمل صورة حمامة بيكاسو البيضاء، ثم مشيت ما يقارب الستة دقائق من المتحف إلى أقرب مكتب بريد. أخرجت قلمي وكتبت عليها إلى أحد الأصدقاء، وسلمت البطاقة للرجل الذي يعمل في المكتب، فوضع عليه الطابع البريدي وأخبرني أنها ستصل في غضون أيام قليلة. لكن لاحقًا أدركت أنها لم تصل لأسباب أجهلها، فألقيت اللوم على حمامة بيكاسو. وتساءلت إن كان سينتهي بها المطاف في يد شخص غريب، مثل البطاقات التي اشتريتها!
مع ذلك ذكرت نفسي بأنه عندما نكتب رسالة ما، فنحن أرسلناها بفعل الكتابة تلك، لأن الكلمات خرجت منا ووضعت على ورق، سواء تم استلامها من الشخص المعني بها أم لا.
سمية السيد كاتبة وفنانة بصرية من مدينة جدة. تشمل ممارساتها متعددة الوسائط الكتابة الابداعية، التصوير الفوتوغرافي والفيديو، النسيج والطباعة.