الكتابةُ في كلِ مكانْ
عثمان الشيخ
(١)
تدهشني دائمًا تغيّر أحوال وأمزجة الناس مع تغيّر التوقيت داخل حدود اليوم صباحًاومساءً، وداخل حدود السنة خريفًا وشتاءً وصيفًا وربيعًا، وفقًا للحالة المزاجية والعاطفية والجسدية. وتأثير ذلك على قراراتهم واختياراتهم وانتاجيتهم وتطوير علاقاتهم.
ولنأخذ الكتابة كمثال، والتي هي بالأساس نشاط عقلي قائم على حشد الأفكار والتصوّرات في لحظة محددة، ومن ثم ترّجمتها إلى جُمل وعبارات ونصوص؛ وهذا ليس تعريفًا دقيقًا لها. سأحاول أن أشارك تجربتي في الكتابة والتعامل مع الأفكار، والتي امتدت لفترات طويلة.
تلوح لديّ عدة تساؤلات، هل إذا فكّرت في كتابة نص ما عند الصباح سيَختلف الأمر عن إذا ما قُمتُ بهذا الفعل عند المساء أو في منتصف النهار أو عند آخر الليل؟ الإجابة السريعة والرشيقة ستكون: بالطبع نعم. وإذا أردت التفصيل قليلاً فسأقول: ظروف مثل الحالة المِزاجية والدّوافع الشخصية وفصول السنة والاستقرار المادي والعاطفي تؤثر بلا شك على طبيعة ما أكتبه وكيف أكتبه، ولكني على أيّ حال لا أتوقّف عن الكتابة. ولي في أرنست همنجواي دليل في ذلك حين قال: "أكتب عندما أكون سعيدًا، أكتب عندما أكون حزينًا، الكتابة هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن مشاعري". هو يتحرّك في مساحة رأي لا تختلف كثيراً عن فرجينيا وولف والتي قالت: "لا يوجد مكان أجد فيه راحتي إلا في الكتابة". فنص تكّتبه وأنت جائع تحت إلحاح فكرة ما، يختلف عن نص تكتبه في أخر أيام الشهر وأنت تنتظر راتبك الهَزيل، وعما إذا أنت في حالة عاطفية مهتزّة، أو تحت تأثير درجة حرارة باردة.
هناك شئ آخر يتعلّق بطبيعة النص نفسه، فكتابة نص قصصي يختلف عن كتابة مقال، والعمل على مُسودة رواية أو إكمال قصيدة ما يختلف عن الاستمرار في كتابة رواية معدّة مسبقًا، والاشتغال على مقال يحتاج إلى إضافة أفكار في البداية أو النهاية لتدعيم الفكرة المُعدّة مُسبقًا يختلف عن غيره.
يبقى أن أقول بأن الكتابة أمر مُلغز ومحير وعجيب، لا ينفك إلا أن تتغيّر أحواله طبقًا للشخص الذي يَكتب من جهة والذي يقرأ من جهة أخرى، وللحالة المزاجية والنفسية والسياسية والعاطفية - وهذا أيضًا ليس تعريفًاشاملاً للكتابة.
(٢)
بشكل أقرب فإن تجربتي في هذا الأمر تقوم على أن النصوص الجديدة والأفكار التي لم أكتب عنها من قبل غالبًا تكون مُعالجتها في أي وقت وأي مكان، وتخضع بدرجة قليلة إلى الظروف التي أمر بها. يكفي أن أفتح مُفكرة الهاتف وأكتب الإطار العام للنص القصصي أو الأفكار الأساسية للمقال أو الرواية. حيث أقوم بتدوينها بهذه الطريقة مثلاً؛ لدي فكرة طرأت عليّ وأنا خارج المنزل في انتظار شخص ما على الطريق فكتبتها كالآتي: (قصة قصيرة تحكي عن متلازمة اضطراب ثنائي القطب، بطلها فلان الفلاني الذي يسكن في قريتنا، ولم ألتقيه منذ سنوات طويلة. سأجعل نفسي أُقابله وأتحدّث معه ومن ثم أحكي تاريخه الطويل مع المرض وتعاملي السابق معه).
أنا متأكد أنه عندما أبدأ بكتابة النص، سأسرد القصة بشكل مختلف، ومن ثم ربما أغير في التفاصيل؛ مثل أن أجعل لقائي بالبطل ذاك هاتفيًا، أو أن أسال من خلاله شخصًا آخر وأسرد قصته… وهكذا. ولكن يظل أساس الأمر أنني نبّهت نفسي للفكرة وحدّدتُ مَعالمها. هذا أمر يُمكِنني القيام به في أي مكان: سواء أكنت في انتظار معاملة ما، أو في المواصلات العامة، أو في أوقات الصمت الإجبارية في الاجتماعات المُملة - والتي أجدها من أغرب الأماكن التي يمكن أن تلتقط فيها أفكاراً عظيمة يمكن الكتابة عنها.
(٣)
كتابة النصوص أو إعادة كتابتها أو تحريرها أو مُراجعتها يحتاج إلى وضع هادئ وخالي من الضوضاء، بحيث يَسمح لي بتجويد الفكرة والاشتغال عليها وترتيب أفكاري بشكل سلس. مثلما فعلت مع مجموعتي القصصية الأخيرة، والتي عندما أنظر إلى مُسودات نصوصها كالذي ذكرتها في مثال ثنائي القطب، يُصيبني استغراب وربما ضحكت من طريقة كتابتي لأفكار القصص؛ مثل قصة عن صاحبي فلان الفلاني كثير الكلام، أو قصة عن الناقد المزعج الذي تعرّض لأحد الكُتاب الشباب في أمسية حاشدة… وبعد كتابة هذا، وضعت جدولاً ثابتًا أقوم فيه بإكمال النصوص أو إعادة كتابتها، ومن ثم مراجعتها واحداً تلو الآخر، بحيث تكون لدي امكانية النظر إلى المجموعة من أعلى وبشكل كامل. فيصبح الحذف والتعديل والتغيير ممكناً ومريحاً، وهو أمر لا أستطيع أن أقوم به في دوامة العمل أو في المواصلات العامة وأوقات الانتظار، إلى أن وصلت إلى مرحلة متقدّمة فيها. جعلتني هذه الطريقة أفكّر في كتابة نصوص أخرى بذات الطريقة: اقتنص افكاري في أي مكان، ومن ثم أُفرد وقتًا إجباريًا لمراجعتها، وهكذا.
وتُخلق هنا مُفارقات تُحيلنا إلى ما قاله همنجواي وفرجيينا، حيث الكتابة هي وطن الكاتب الذي يلجأ إليه، وهي سلاحه الذي يحارب به العالم ويستطيع أن ينتزع لها وقتًا في رزمانة يومه. فعندما لا يستطيع الكتابة يمكنه أن يستثمر في تدوين أفكاره. أما أوقات الكتابة التي تصادف أوضاعًا أكثر هدوءا، فيمكنه إنجاز أكبر قدر من النصوص.
عثمان الشيخ خضر النور، كاتب ومدوّن وقاص ومهندس، سوداني الجنسية ومقيم بالمدينة المنورة. يكتب المقالات والقصائد والقصص القصيرة. صدر له كتاب" تلصُّص - حفريات في ذاكرة مهترئة-،" كما صدرت له مجموعة قصصية "الخروج من بوابة الجسد"، وترجمت إلى اللغة الإنجليزية ولم تُنشر بعد.
حصل على عدد من الجوائز في القصة القصيرة داخل السودان؛ مثل جائزة الطيب صالح للقصة القصيرة في دورتين عام 2017 وعام 2020. وعدد من الجوائز خارج السودان؛ مثل مسابقة قصص على الهواء التي تنظّمها مجلة العربي الكويتية بالتعاون مع إذاعة مونت كارلو الدولية في العام 2018.