أسودٌ مُطلق
علي التتان
الأسود. دائماً الأسود! لماذا يجب عليهم دائماً ارتداء الحذاء الأسود نفسه؟ إنني أتابع هذه المحاكمة منذ أسابيع منتظراً فرصتي لأتحدث، ولكني لا أستطيع غض البصر عن أحذيتهم السوداء المستفزة. يغيّر مسؤول الادعاء العام ثوبه وغترته في كل جلسة، إلا ذلك الحذاء الأسود اللعين لا يتغير. إنه يستهزئ بي، أنا أعلم ذلك! ولم يكن محامي صديقي أفضل حالاً منه، على الرغم من أنه جاء يومًا وقد اعتلى حذاءه لطخة من الطين المتيبس أضافت شيئًا من التغيير.
أجلس في هذا الرواق الكئيب يومًا بعد يوم، ساعة بعد ساعة. أرى الحشود تجتازني داخلة وخارجة، وما زلت هنا، أنتظر وأنتظر أن ينادوني. لقد مللتُ من النظر للوحات المعلّقة على الجدران وشرب القهوة الباردة التي تنتصب على طاولة بجانب قصعة من الرطب. كما أن تلك الأضواء الوامضة بشكل وقح في نهاية الممر أصابت رأسي بصداع شديد.
فتاة مرت بجانبي. رمقتني بابتسامة سريعة فرددتها بشيء من التردد، إلا أن ابتسامتي سرعان ما اختفت بلمح البصر حينما لاحظتُ لون حذائها: أسود! من بين جميع الألوان الموجودة في هذا العالم، لماذا يختار الجميع الأحذية السوداء بحق الجحيم؟ نهضت بطريقة تصنّعت عفويتها لأتبع الفتاة، أستطيع استشعار دقات قلبي تتسارع وحلقي يجف. يداي مختبئتان داخل جيوب ثوبي، تتحسسان إحدى الحقن الإضافية التي دائماً ما أحملها معي. يسألني موظف الأمن عند مدخل المحكمة دائمًا عنها، فأخبره بأنني مصاب بالسكري من الدرجة الثالثة. أنا واثق بأن كلينا يجهل درجات السكري، ولكن ابتسامة وجهي البريئة لا تترك لك مجالًا إلا تصديقي حين رؤيتها. لم تلاحظ الفتاة مسيري خلفها. كانت متجهة نحو السلالم الخلفية التي تقود إلى قبو المبنى. يا لحظي!
ها أنا عدتُ للجلوس على نفس المقعد القديم بعد اثنتي عشرة دقيقة. لن يستطيع أحد إيجاد الجثة في أي وقت قريب، أتمنى ذلك على الأقل، فقد حدث أن كنت مخطئًا، ولهذا نحنُ هنا. من المؤسف فعلًا أن صديقي دخل في مشكلة بسببي. إنه شاب لطيف، أدكن حذاء رأيته يرتديه في قدمه كان بلون الخشب. لم يكن ليلوّث نفسه أبداً بحذاء أسود.
مرت دقائق وساعات حتى سمعتُ شخصًا يسعل بالقرب مني. نظرتُ باتجاه بوابة القاعة: مساعدٌ قانوني لطيف المظهر ينتصب وعيناه تتجهان ناحيتي. بنيّ غامق، ليس أسودًا، يا للراحة. قادني إلى الداخل. صديقي ومحاميه في جانب، وبعض أعضاء المحكمة الآخرون في جانب آخر. رفعتُ رأسي أعاين صديقي فرأيته كالحطام. كان هزيلًا ومن حول عينيه هالاتٌ داكنة ومخيفة. حوّلتُ نظراتي لقاضي المحكمة، رجل كبير في السن ذو نظرات جادّة، مع تجعد حول عينيه أعطاه منظرًا يدل على الحزم. لا أستطيع رؤية حذائه، ولكن يراودني شعور بأنه يرتدي شيئًا يريحني تحت مشلحه.
"كيف تعرفت على هذا الرجل؟"
لم أكن منتبهًا. هنالك العديد من الوجوه والكثير من الأحذية بدرجاتِ ألوانها المختلفة، لم أكن أتوقع أن يبدأ السيد ذو الحذاء الملطخ بالطين أسئلته بهذه السرعة.
"أوه، أعتذر. لقد تزاملنا في غرفة واحدة لثلاث سنوات أو أربع،"
رددت عليه محاولاً رسم ابتسامة ناحية صديقي. يبدو عليه الامتنان لوجودي، أشعرُ بتأنيب الضمير لما حصل له بسببي.
استمرّ الرجل ذو الحذاء الملطخ بالطين في طرح أسئلته عليّ. أعلم أنه يحاول أن يهيئ مشهدًا يبني عليه خلفية دفاعه، ولكن برغم محاولاتي، إلا أن اهتمامي لم يكن منصبًّا عليه أبدًا. إذ لاحظتُ مساعدة المدعي العام آنذاك، ولاحظت الذي ترتديه في قدميها! لم أرَ يوماً درجة سواد شيطانية لهذا الحد. لا أستطيع إزاحة النظر عنه. كنتُ قد رأيت مؤخرًا تقريرًا إخباريًا عن نوع جديد من الأصباغ يُطلق عليه "الأسود المطلق"، وعلى ما يبدو أن هنالك تاجرًا وضيعًا قد قام بصبغ بعض الأحذية به. ما الذي كانوا يفكرون به حينما جاءوا بهذه الفكرة؟!
استحوذ هذا الحذاء الآثم على لبّي بالكامل فلم أستطع الردّ على أسئلة المحامي. حلّ صمتٌ مفاجئ، صار حضور القاعة يتشاورون فيه بخصوصي. صرت أنظر إلى المكان وأحلل تفاصيله. يحيط بي عشرة أشخاص تقريبًا. جميعهم ينظرون إليَّ بشكل غريب.
"أنا آسف، أيمكنني الحصول على كوب من الماء رجاءً؟"
أشار أحد رجال الشرطة ناحية ثلاجة صغيرة بزاوية الغرفة.
في حين كان الجميع يتبادل أحاديث هامسة عني وعن صمتي الغريب ونظراتي المشدوهة، انحنيتُ لأقترب من حذائي. لم يستطع رجال الأمن العثور على الشفرة الحادة التي خبأتها فيه. أخرجتها ببطء وأخفيتها في راحة يدي.
"عفوًا سيدي القاضي، لدي شيء خاص أريد مشاركته إياك بحضور المحامي وفريق الادعاء العام."
لا أعلم من أين واتتني هذه الفكرة، ولكن شيئًا أوحى لي بأنها جيدة. رمقني القاضي بنظرة شك، ثم طلب من المحامين الاقتراب من الطاولة. هذه فرصتي. اتجهتُ إلى القاضي ونظري منصبّ على ذلك الحذاء الذي يمتص الألوان بشكل فظيع، يخطو الخطوة تلو الأخرى مقتربًا. بعد لحظات قليلة ستكون مساعدة المدعي العام قريبة مني بشكل كافٍ.
التقت عيناي بعيني صديقي. إنه رجل طيب وبريء، وأنا منزعج لوجوده في هذا المكان. لم أكن متأكدًا من طبيعة ما سيحدث في الدقائق القليلة القادمة، ولكنّ ما سيحدث سيبرئ اسمه بكل تأكيد. جميع المحامين على بعد مناسب من المنصة. انحنيتُ باتجاه الجمع وأخبرتهم بأن لدي شيئاً مهمًا عليهم أن يستمعوا إليه. وقبل أن يستطيع أي منهم إبداء ردة فعل قمت بإبراز الشفرة. في لحظة واحدة تلطخ عنق مساعدة المدعي العام وعباءتها باللون الأحمر. شعرتُ بالراحة العميقة مباشرة. غضضتُ البصر عن مكان سقوطها حتى لا أنظر إلى حذائها. شعرت بجسدي يتصلب بسبب الصعقة الكهربائية المفاجئة التي سرت فيه. قاومتُ حتى لا أفقد الوعي وسط الصرخات حولي. ملأ الاضطراب قاعة المحكمة. أسمع صديقي من مكانه في الخلف ينادي بإسمي. على الأقل سيكون حرًّا الآن.
ارتطم رأسي بالأرض بقوة، وعلى أقل من متر من عيني كان الحذاء باللون "الأسود المطلق". حاولتُ أن أغلق جفنيّ، ولكن أعصاب جسدي لم تطاوعني على ذلك. صرتُ أحدّق فيه باشمئزاز. يا إلهي كم أكره هذا اللون!
علي التتان خريج بكالوريوس هندسة ميكانيكية وماجستير هندسة مواد. مجتاز لعدة دورات في فنّ كتابة الرواية، القصة القصير، السيناريو، والنصوص المسرحية.