top of page

ربابُ ربَّةُ البَيتِ

حسناء إبراهيم



أُصيبت أمي بانهيارٍ عصبي لأن بقعة زيت عنيدة أبت أن تبرح قماش ثوبها.
تشبه البقعة الفاصلة المنقوطة؛ خطٌ وعر، ثم بقعةٌ صغيرة شائكة الأطراف أسفله، تشبه البقع الملونة التي كانت تقذفها أستاذة الفنون الجميلة بمدرستنا على لوحاتها الزيتية. ثم تعتد باستعراضها ما إن فرصة لها سنحت. لطالما كانت تلك اللوحات محط سخرية لي ولزملائي؛ لسُخفها، غرابتها، وخوائها من أي معنى قابل للإدراك.

لم يكن لساعة مطبخنا عقرب ثوانٍ؛ خط عقربا الساعة الآخران خطواتهما الصامتة ببطء. يحاكي إيقاع ثالثهما الغائب صوت دعكٍ عنيف وتأوهاتٍ ملؤها الجزع.

لساعات بقيت أمي منحنية على صدر ذاك الثوب الملطخ، لا تكف عن الدعك يداها إلا لمسح عرق وجهها أو لم ما تطاير من شعرها. كلما نال الإحباط منها، هَرَعتْ لخزانة المنظفات أسفل المغسلة بحثًا عن خلاص؛ تطغى رائحة الصنوبر على أجواء المطبخ لحين ارتداد باب الخزانة. وتتضح لي حينها للحظة بعد صوت ارتطامه رائحة مطبخنا التي اعتدتها قبلًا إلى حد نسيانها.

ولِذات الساعات، افترشتُ صلابة بلاط المطبخ مستمعًا بأطرافٍ مُوجعَة للحنٍ من أزيز الثلاجة وهدير المروحة. سعيتُ بعد حين، هربًا من تلك الأوجاع، وراء نملة كانت تطوف من حول قدماي الممدودتان، حاملة على ظهرها فتات خبز تكبرها حجمًا.أثار منظرها في شيئًا من السخط، فوجدت نفسي أمد قدمي لإعاقة طريقها. كلما سعت إلى تجنبي سعيتُ أكثر إلى سد طريقها. بدى الأمر مسليًا، والوقت أقل بطئًا، وأنا مغمورٌ في سعيي هذا. يُخيل لي بأني عملاق، وتلك النملة مخلوقٌ بري شرس يرزح تحت وطأة قدمي.

رن هاتف المطبخ قاطعًا خيالاتي، ومجبرًا أمي على ترك ما في يدها لتلقيه.
"ألو"
أجابت بوجل وعيناها على الثوب. يمناها قابضة على سلك الهاتف كأنها تخشى السقوط إن أفلت منها، ثم اعتلت وجهها المذعور تعابير الانهزام؛ هي خالة هاجر إذًا.
أسندت ظهرها إلى زاوية خزائن المطبخ، محاولةً بجملٍ متقطعة أن تحكي مأزقها، قبل أن تمسك المتصلة دفة الحديث، إذ وقفت أمي مشدوهة تستمع.

"جربت هاجر، والله جربت." أذكر لا زلت جيدًا كم الألم الذي قيلت به تلك الكلمات.
"مو قاعدة تروح"
بدا الألم ملموسًا حينها، كأن الكلمات شقت في طريقها حلق أمي
"مهما حاولت، مو قاعدة تروح."
كانت تحدق بي وكأنها لا تراني، على باطن رسغها الأيسر لطخةٌ بيضاء من بقايا المساحيق؛ تكاد تخفي تمامًا الندبة أسفلها.

أشاحت بنظرها لأرضية المطبخ، بدت أيضًا كأنها لا تراها، وسماعة الهاتف، لا تزال عند أذنها حينها، لكنها لم تبدوا وكأنها تصغي. بعد حينٍ من السكون، هزت رأسها، أغلقت السماعة، ووضعت راحتا يداها على سطح الخزائن من خلفها؛ ثم أعلت رأسها، مغمضة العينين.

تفيق، وتنقض على الثوب مجددًا. يعتريني شعورٌ منفرٌ بالغثيان؛ ألمح فُتات خبزٍ تنزح بعيدًا، بالكاد أرى الكائن من تحتها، كأنها هي التي تحركه. أزحف باتجاهها. خطاها تترنحُ قلقًا إحساسًا بحضرتي. أرفع قدمي مصوبًا الإبهام تجاهها، أركز فوقها دون أن أسحقها، أسمع صوت تمزق القماش، ثم يسود صمتٌ لا أدري مداه. لا أرفع عيناي لأرى ما حدث؛ أرقُبُ النملة وهي تلوذ بالفرار تاركة الفُتات.

في المساء، حول سفرة عشاء بيت جدي استذكرت صرختها، والعمق الغريب الذي يسود صوتها حين تصرخ، لا ألحظ في غرابته أي ملمح من ملامح صوتها؛ كأنه لكائن استكان بها.
"يا تاكله كله أو خله."
توبخ جدتي إسماعيل لمحاولته إبعاد قطع الطماطم عن البيض، وهي تجلس مادة قدماها على مد السفرة كحورية بحر مسنة.
"ما أحبه."
"مو لازم تحبه."
أخذ رشفة أخيرة من اللبن قبل أن ننهض سوياً من السفرة.
"أمك جربت تحط خل؟"
تُسائلني حين أوشكت وإسماعيل على مغادرة الغرفة؛ لم أعِ مقصدها.
"البقعة،" تجيب بنفاد صبر: "جربت أمك تحط عليها خل؟"
هززت رأسي بالنفي.
"هبلة." أجابت وهي تحضر لقمة بدا لي كأنها تتجنب الطماطم فيها
"الزيت ما يشيله إلا الخل".

حسناء إبراهيم، كاتبة من البحرين

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page