top of page

في طريقي إلى كافكا

سمية السيد


كل شيء له صلة بشيء آخر، وبشكل ما كانت تزامنية الأحداث في الصيف شيئًا دعاني أن أقف عندها وأتأمل فيها بينما كانت الأشياء تتداخل مع حياتي، حينها سافرت من برلين إلى براغ للمرة الأولى. ربما لأني كنت أريد أن أبحث عن معنى بداخل الصُدف، أو أن أفتح عيني لرؤيتها بشكل مختلف لأرى كيف من الممكن لها أن تخدمني. بينما كنت أجمع أفكاري وملاحظاتي بعد أن رجعت من الرحلة لأكتب هذه المقالة التي فكرت كثيرًا في كيف سأكتبها وترددت أيضًا لنشرها، كان من الصعب أن أحدد أيهم كان الأهم لي، الرحلة ذاتها أم محاولة فهم تلك الروابط مع وجودي.
عند زيارتي للمتحف الوطني الجديد في برلين، دخلت عصرًا إلى معرض خُصص لعرض عمل لفنان تايواني/أمريكي، كان في مدخل صالة المعرض سلسلة من الأوراق معلقة على الجدار. اقتربت من أولها وقرأت ما فيها، ثم انتقلت بسرعة وذهول إلى الورقة الثانية ثم الثالثة، إلى أن وصلت إلى ورقة وجدتها الأكثر جنونًا. كانت كل ورقة تنص على بيان كتبه الفنان قبل بدأه تجربة من تجاربه الأدائية، وما كُتب في تلك الورقة تحديدًا أترجمه هنا للعربية لتتضح الفكرة:

أنا سام شِيا، أخطط القيام بعمل أدائي لمدة عام، يبدأ في ٣٠ سبتمبر، ١٩٧٨
سأنغلق على نفسي في الاستديو، في عزلة داخل قفص بقياسات..
لن أتحدث، أقرأ أو أكتب، لن أستمع إلى الراديو، أو أشاهد التلفزيون حتى تاريخ ٢٩ سبتمبر، ١٩٧٩
وسيتوفر لي طعام كل يوم
صديقي Cheng Wei Kuong سيتولى مهمة توفير طعامي وملبسي ..

مشيت إلى الصالة الثانية للمعرض وكُلي فضول، حيث عُرض فيها توثيق الفنان للتجربة التي عزل فيها نفسه لمدة عام بداخل قفص، يوميًا بكاميرا أظهرت تغيرات شكله ونمو شعر رأسه الحليق. لن أحكي هنا عن التفاصيل وسأترك مهمة البحث لفضولكم، لكن ما هو جدير بالذكر أنه كانت هناك أوقات محددة يزور فيها الناس الفنان بينما هو داخل القفص. بعد تلك الزيارة للمتحف، ظللت أفكر كثيرًا في تجربة الفنان لأنها أثرت فيّ بشكل ما فكان عقلي مشوش بالأسئلة، منها: "ما الذي كان يفكر فيه طوال مدة التجربة؟ وما الذي كان يريد إيصاله للجمهور؟"
لاحقًا شعرت أن الفكرة مألوفة، وكنت أظن ساعتها أنني قرأت عن العمل قبل زيارتي للمتحف دون وعي مني، بينما ما جعلها مألوفة هي قصة الكاتب فرانز كافكا "فنان الجوع" التي ظل تأثيرها مختبئ في مكان ما في عقلي ولم أكن أذكر تفاصيلها، لكن لوجود عنصر "القفص" اختلط الأمر في رأسي، ولم أدرك أنهما شيئان مختلفان إلا بعد مدة من الوقت.

في تلك الأيام الصيفية في برلين، كان يُسليني حساب في تويتر عنوانه الجانب المشرق من كافكا The sunny side of Franz Kafka ، وبالرغم من أني لم اقرأ لكافكا إلا قصصه القصيرة ولم أكن من القُراء المهوسين بأعماله، إلا أنه كان حاضر بشكل ما غريب أثناء تواجدي في برلين. بسبب ذلك الحضور، خطر في بالي يوم أن أعرف المسافة بيني وبين مدينته براغ، وبعد أن عرفت أنها ساعات قليلة، شعرت حينئذٍ أن الزيارة وجبت وحجزت تذكرة. انطلقت إلى براغ دون أن أعرف عنها شيء سوى فرانز كافكا وبعض من أسماء مكتباتها.
في الطريق إلى براغ صباحًا، تهللت أساريري لمنظر بعيد رأيته من نافذة الباص. حقل أصفر شاسع كنا نمشي إليه، وعندما اقتربنا بان لي أنه حقل زهور دوار الشمس، فأخرجت هاتفي من الحقيبة لآخذ صورة له. وما إن رفعت بصري كان الحقل قد اختفى عن ناظري. وصلت عصرًا إلى براغ ودخلت في ضوضاء مدينة أخرى، كنت أشعر بالحر والإرهاق وجوع شديد. دخلت الشقة التي حجزتها ووضعت حقيبة ظهري أرضًا، وخرجت فورًا بحثًا عن مطعم حولي. مشيت في منطقة براغ 1 حيث دُهشت من عدد السياح فيها رغم حرارة الجو، وأصبحت مثلهم سائحة آخرى داخل الزحام الذي اختلطت فيه أصوات اللُغات مع أصوات محركات السيارات الفارهة. بعد أن ملأت معدتي، اتجهت قبيل الغروب إلى ساحة في براغ لرؤية تمثال دوار لوجه فرانز كافكا. كان المجسم يتحرك فضحكت وأنا أقف مع الواقفين من الناس لنشاهد أبعاد وجه كافكا تتغير، وتساءلت في سري: "يا ترى ماذا ستكون ردة فعل كافكا إن رأى هذا المجسم؟" أحب تخيل أن فكرة تجسيد نفسه المضطربة وشخصيته القلقة إن صح القول، ستبعث له القلق. يموت كاتب فيأتي فنان بعده يصنع عملًا ليخلد به خصال ربما لم يود الكاتب أن تكون فيه، أو على الأقل ليست واضحة للآخرين.

في يومي الثاني، مشيت ما يقارب الثمانية عشر كيلومتر. أكلت فيها، تجولت، توقفت لأرتاح في حديقة تحت ظل شجرة، وزرت عدداً لا بأس به من المكتبات في المدينة، من ضمنها مكتبة شكسبير وأبنائه، بحثاً عن رسائل كافكا المترجمة للإنجليزية، لكن دون طائل. في كل مكتبة دخلتها وجدت فيها رواية المسخ وبعدة لغات، لكن لم تكن ما أبحث عنه في ذلك الوقت. لدي إيمان بأن كل كتاب له وقت وزمان، وحينما يحين وقته سأمد يدي وسأجده.
في جولاتي ذلك اليوم مشيت في حارة كافكا، حيث كان منزله القديم عندما وُلد، وصدف أن محل الجيلاتو المفضل لدي كان يقع في نفس المبنى الذي عليه لوحة بإسم فرانز كافكا، فدخلت وطلبت الجيلاتو واحتفظت بالفاتورة.
في نهار صيفي آخر، كنت محتارةً بين استعمال المواصلات العامة أو المشي لمشوار يقارب الأربعين دقيقة إلى متحف كافكا، فاخترت المشي وندمت بعدها. عند وصولي وقفت في الساحة الخارجية للمتحف وأنا أتنفس الصعداء، كان العرق يتصبب من جبهتي فمسحته وشربت ماء. كانت أمامي مجموعة من السياح مع مرشد يتكلم ويضحك مشيرًا بيده إلى تمثالين متقابلين عاريين لفرانز كافكا، فمشيت ووقفت بالقرب منهم لعلي أعرف معلومة عن التمثال الذي وجدته ساخرًا، لكني لم أفهم شيء من لكنته اللاتينية، فدخلت إلى المتجر لأشتري تذكرة دخول. كان المتجر خاليًا فأخذت جولة فيه ورحت أتفرج على دفاتر ومطبوعات، بطاقات بريدية، حقائب وأقلام عليها صور فرانز كافكا، ثم لفتتني بطاقة بريدية عليها صورة له بقصة شعر عجيبة، فأخذتها وأنا أبتسم لتذكري جملة قرأتها لكافكا: "قيمتي أكبر من شعري." مشيت إلى البائع ووضعتها على الطاولة فسألني إن كنت أريد تذكرة دخول، قلت: "لا،" ثم خرجت والبطاقة معي دون أن أدخل المتحف. شيء ما غير رأيي فجأة ولم أعد أريد الدخول! كان شعورًا لم أدرك كنهه ولم يلحقه الندم. هل كانت يد كافكا اللامرئية؟ أم ضربة شمس؟
في المساء قضيت ساعات بمفردى في الشقة على الإنترنت اقرأ رسائل كافكا لوالده، كان مطلع الرسالة:

"سألتني مؤخرًا، لماذا أدعي أنني أخاف منك. ولم أعرف كالعادة أن أجيبك بشيء. من طرف بسبب هذا الخوف نفسه الذي أستشعره أمامك، ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمعه إلى حد ما في الكلام. وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابةً فلن يكون الأمر إلا ناقصًا كل النقص، وذلك لأن الخوف ونتائجه يعيقني إزاءك في الكتابة أيضًا، ولأن جسامة الموضوع تتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيرًا."

كنت أقرأ الرسالة ورسائل أخرى وأتتبع في كلماته صوت كافكا الإنسان قبل الكاتب؛ خوفه، وحدته، حساسيته، مصيره، عدم تقدير الناس وحتى والده لأعماله وهو حي، وعن صديقه ماكس برود الذي نشر أعماله بينما طلب منه كافكا أن تُتلف عند وفاته، وعن أخلاقيات فعلته. مع ذلك كنت أقول ربما لو لم يفعل برود ما فعله لما وصلت لنا أعمال كافكا، ففي كثير من الأحيان لا يرى الكاتب أو الفنان قيمة أعماله لأسباب كثيرة، ربما لمرضه، أو لقلة تقديره لنفسه وأعماله، وربما لأنه لم يعد يرى شيئًا مميزًا في كتاباته لانغامسه فيها، فيحتاج لمنظور من بعيد، لشخص آخر يراها بعين غير عينه.

في طريق رجوعي من براغ إلى برلين، استغرقت نصف الوقت على جهازي المحمول في القراءة، وبحثت عن الفنان التايواني وتجربته وعرفت لاحقًا من بحثي أنه متأثر بأعمال كافكا. "آخ لو يعرف فرانز كافكا عن التأثير الذي خلفته كتاباته!" قلت في سري. ربما أيضًا لو أنني كنت أقل حساسية تجاه ما أراه، لما تأثرت من ذلك العمل ومن كلمات كافكا، ولم أكن لأزور براغ.
مدهشة هي فعًلا، قوة الكلمات. كيف أنها تحيا حتى بعد موت أصحابها. وفي أحيان يأتي شخص بعد سنوات من رحيل الكاتب ويتأثر بفكرة ما أو فلسفة ما من عمل له، ويشعر بأنها تعبر عما بداخله أو تلامس حياته ومعاناته.
بينما كنت أتساءل عن دوافع الفنان التايواني، حاولت أن أرى التشابه مع الراوي المجهول في قصة كافكا ورمزياتها، ولا أريد أن أحرق احداثها هنا لمن لم يقرأها.

جعلني العمل أفكر في مفهوم الوقت وتجسيده في الأعمال الإبداعية، وشعرت بشيء من إثبات مفهوم الاستمرارية والإلتزام في عمل الفنان سام وربما أسقطت شعوري على عمله، لأني لم أنتبه إلا لاحقًا أن مجالي الفني كان يشغل تفكيري في تلك الفترة، وكانت تراودني الكثير من الأسئلة: "هل هو فعلًا ما أود أن أكون فيه؟ ولماذا؟" كنت أحاول أن أثبت لنفسي أنني قادرة على الالتزام بكتابة قصة أتخيلها وأقلبها في رأسي، لكن كان السؤال الذي يقلقني دائمًا: "لماذا أريد أن أكتب؟ ولماذا أنا متمسكة بالكتابة؟" فمع أي مانع أجدني أحاول أن أجد طريقة للاستمرار وللكتابة بشكل أفضل.

في آخر ليلة لي في براغ، جلست أتأمل ما كان يريد كافكا وسام شيا إرساله من خلال أعمالهما تلك، وربما كانت أحد الأفكار المشتركة التي ربما أرادا أن يعرضاها هي مفهوم المصداقية، وطرح فكرة العزلة أو الحاجز الذي قد يضعه الفنان مع الجمهور والمجتمع، ذلك الحاجز الذي يمنع وصول الفنان والكاتب للناس ليروا فنه و فكره. في حال عدم تقدير الناس لأعمال الكاتب أم الفنان، هل يكون بذلك لا قيمة له؟
حاولت أن أجد نقطة وصل ما بين تلك التجارب الإنسانية، الصلة بين قصة كافكا وعمل سام، وبيني وظللت شاردة الذهن إلى أن نمت دون أن أصل إلى جواب شافي.

[الصورة هي تمثال رأس فرانز كافكا-براغ- حقوق النسخ محفوظة لسمية السيد]

سمية السيد هي كاتبة و فنانة بصرية من جدة. شاركت في إقامات فنية داخل وخارج السعودية، ونُشرت لها قصص قصيرة في المجموعة القصصية "قصص من السعودية لعام 2019 -2021" وقصة مترجمة للإسبانية في مجلة بانيبال، وقصتين في سرد أدبي، وتكتب أحيانًا في مدونتها somayaals.com

bottom of page