top of page

ما الذي تُخفيه طبقات كلير حجاج السبع؟

عبدالواحد الأنصاري


مِلتُ منذ حينٍ إلى أنّه ليس في الكونِ أدب إنسانيّ مجرّد من الغايات، ولا نصٌّ إبداعي منفصل عن بيئته ومحيطه وصراع الأفكار والقوى في زمانه، فالأدب مُنتَج بشريّ تاريخيّ ليس له من العِصمة ما تدّعيه الأيديولوجيا الغربية حينَ لا تكونُ في خطر، أو حينَ تتغاضى عن الأيديولوجيات المؤيدة لها. وأعتقد أن دانتي لو عاش في زماننا لحجز في «جحيم كوميدياه» جناحًا للأدباء والنقّاد الذين يزعمونَ أن «الإنسانية» وحدَها كافية لتطهير الأدب من جميع الذرائع والغايات.
فما الحلُّ إذن ما دام هذا الدربُ من الذاتية مسلوكًا في الأدب شئنا أم أبينا؟ وجهة نظري: أن يُخبر الأديب أو الناقد ويُنبئ عن مسبّقاته ومسلّماته وذاتيّاته، وبهذا تتحقق الموضوعية المرجوة.
وأنا في هذه الديباجة الطويلة بعض الشيء، وبين يدي رواية كلير حجاج (برتقال إسماعيل) أنطلق من فكرة تيري إيقلتون، الذي يقول إنه لا حاجة إلى جرّ السياسة إلى النظرية الأدبية ابتداءً، فهي موجودة فيها منذ اللحظة الأولى. كما أتبنى «الرؤية البيئية» التي تؤكد أننا ما دمنا لا نتحدث في جماليات النص أو مكوّناته البنيوية فحسب فإن كل شيء فيه يمكن أن يُستدل به على انتماء أو قيمة أو مبدأ بشري مبثوثٍ خارِجَه، وما النص سوى «أداة صراع» لتأييد هذا الموقف «الخارجي» البشري أو الاصطفاف ضدّه؛ ومن أجل هذا ينبغي لنا أن نتخذ النصوص (أو طائفة كبيرة من النصوص على الأقل) وسيلة لفهم البيئة التي عاشت فيها، أو أن نخرجها من ظلمة كهفها البنيوي إلى البيئة لنفهمها في ضوئها، ثم نستعيدها بعد ذلك لنقرأَها بنيويًا إنْ شئنا.
وكما نفهم من تلخيص عبير عبدالحافظ فإن السفسطائي بروتاقوراس لم يكن مخطئًا في كل شيء ضربةَ لازب، بل إن بعض مقولاته وجدَت لها امتدادًا في أثير النظريات الأدبية المتأثرة بالفينومينولوجيا والتيار الفلسفي والنقدي المعاصر، الذي يثمّن الوعي ويعده مصدرًا للمعرفة وأساس كل شيء. وليس هذا مما عارضه سقراط (ناقد السفسطائية الأكبر) وتلاميذه، بل هو يؤيده على نحو (ما) بتوكيده أهمية تعرّف النفس الإنسانية، ثم توظيف الطبيعة والبيئة وتسخيرهما للإنسان. لكن الشيطان، كما يُقال، يكمن في التفاصيل، وفيها يحدث الاختلاف؛ فالإنسانُ الذي يرى أنّ هذه الطبيعة خُلِقَت له هو نفسه الذي يبني على ذلك أنه يحق له، ولو بلسان الحال، أن ينتهكها ويهتك حرمتَها وحرمةَ أخيه الإنسان، ومن إدراك هذا المأزق وأمثاله تفرّعت النظرية الأدبيّة البيئية والتحمت بما بعد الاستعمارية، وراحت تدرس عمليات الاستيطان أو الاحتلال وعواقبها وآثارها وشواهدها وتجلياتها في الأدب، تمامًا كما اتجّهت، دون شك، في سياقها الجليّ إلى دراسة علاقة الإنسان بالبيئة الأخرى غير العاقلة (النبات والحيوان) في النصوص الإبداعية.
ومِن هُنا فإنني لا أقرأ لكاتب ينتمي إلى أصول متأثرة أو مرتبطة بالقضايا الإنسانية الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، إلا وأتغيا أن يصحب ذلك استحضار لسيرته الذاتية في أعماله، إذ يصعب في مثل هذه المواطن أن ينفصل ما جزء من تاريخ الذات والعائلة عن بانوراما الإنسان في هذه المسرودة المتخيّلة (من حيث التجنيس الأدبي فحسب، أي: التسليم بأنها نثر خيالي). ومستندي في مثل هذه المواطِن ما عرّف به عالم السيرة الذاتية فيليب لوقون الرواية السيرية، حين لم يربطها بتجنيس الكاتب ولا القارئ العادي لها، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فهي من وجهة نظره: «كل النصوص التخييلية التي يمكن للقارئ أن يعتقد، انطلاقًا من التشابهات التي اكتشفَها، أن هناك تطابقًا بين المؤلف والشخصية، في حين [أو: ولو] اختار المؤلف أن يُنكِر هذا التطابق، أو على الأقل اختار ألاّ يؤكده» (ما بين المعقوفتين مِن عندي لا مِن عند لوقون).
فما الذي اختارت كلير حجاج، الكاتبة المعروفة المولودة لأمّ عِبرية وأب فلسطيني، أن تنكره من تلك التطابقات، أو، بمعنى أوسع: ما الذي تخفيه هذه الكاتبة؟
عندما وقعت بين يديّ رواية «برتقال إسماعيل» لكلير حجاج، لفتت نظري كلمة «برتقال» التي أعرفها في قصص غسان كنفاني، ولا سيما قصة «أرض البرتقال الحزين»، ودوّختني كلمة «إسماعيل»؛ فعندما يوظّف كاتب له أصول عبرية كلمة «إسماعيل» في عنوان كتاب فلا شكّ أن ها هنا مقابلة (ما)، بين طرفين، أحدهما «إسماعيلي/عرَبي/فلسطيني» والآخر «إسحاقي/عِبري/صهيوني»، ولو لم يكن هذا الاقتران موجودًا إلا فيما يسمى «لاوعي الكاتب» على الأقل.
عندها تقمصّتُ دور «صرّاف النقد» الذي عرفتُه في أيام صباي في وسط منفوحة، ولعِقت باطن إبهامي، وبدأت أعد وأفحص النقود التي بين يدي، إذ رأيتُها فرصة لاختبار نموذجي الذي أتبنّاه في قراءة الأعمال الأدبية وتفسيرها، وقد قدمتُه فيما سبق من هذه المقالة بما يُغني عن اختصاره مرة أخرى.
وقفت على مقالة نُشرت على موقع حركة عربية يهودية للتغيير الاجتماعي والسياسي، وموضوعها رواية كلير حجاج هذه، وتنتهج المقالة طريقة غير بعيدة عما أرمي إليه، فهي تتناول تجربة كلير التي جمع الزواج بين والدها الفلسطيني وأمها اليهودية، لكنها تشير إلى أن حبكة عمَلها «خيالية» على رغم أنها تناقش قضايا مهمّة. وترى المقالة أن ثمة تشابهًا بين شخصيات «برتقال إسماعيل» وشخصيات أخرى لسامي مخائيل في أدبه العبري، وأنها تتماشى في العمق مع الرؤية «الميخائيلية» إلى هذه للشخصيات، دون أي إشارة إلى قصة كنفاني المذكورة آنفًا، وهنا بدأ ذلك الشيء «يِلْعَبْ في عُبِّي».
أوّل ما بحثتُ عنه كان شيئًا في بيئة الرواية الواقعية ذا مطابقة تامّة لما في بِنيتها المتخيّلة. ولم يطل البحث، فوجدت أول الأمر خبرًا على صحيفة إسرائيلية يقول: «لوحة عمرها عقود تم اكتشافها في يافا تكشف القصة المنسية لبرتقال يافا الأصلي: في أحد بنايات شارع سلمى، وتحت طبقات من الطلاء، كانت هناك لافتة مكتوب عليها «برتقال سيد حجاج» مخبأة منذ عقود».
ثم عثرتُ في موقع إسرائيلي على «مرئية» عن اكتشاف شعار شركة برتقال عربية تابعة لعائلة حجاج في يافا في الثلاثينيات من القرن الماضي، تحت سبع طبقات من الطلاء، ويقول مقدّم البرنامج (وهنا يثبت أن نموذجي للقراءة صالح للاستهلاك البشري) ما نصه: «في أثناء أعمال الترميم تم العثور على حفيدة صاحب شركة «هدار» للفواكه كلير حجاج وصلت هذا الشهر إلى المنزل الذي وجدت فيه النقوش. وغمرتها السعادة بعد اكتشافها لفصل مفقود في تاريخ عائلتها».
وتَظهَر الروائية، التي كتبت القصة الخيالية، في المقطع الواقعي، وهنا يُماِرس التخييل «عبورًا حضاريًا» إلى الواقع، وتسقط الحواجز والجدران بين الميثاقين السيري والخيالي؛ فكلير تتظاهر بأنها اكتشفت تاريخًا مجهولًا لها، على رغم أنها قد دوّنت طرَفًا منه في روايتها الصادرة قبل هذا الاكتشاف بعام كامل.
ثم تظهر كلير في الكادر قائلة: «سعيد حجاج هو جدي، وكنت أعرفه دائمًا باسم سعيد وهذه أخته يسرا، وكنت أعتقد أن محمود هو والده، لكن من الممكن أن محمود أخوه. وكان هذا شعار شركته، ولم أره من قبل، ومن المدهش حقًا رؤيته».
ويقول شاي باركاش، المتخصص في مجال توثيق الآثار وحفظها: «القصة المثيرة للاهتمام هنا هي أننا نعرف كل البساتين اليهودية، وشركة «بارادس» وكل ما كان موجودًا هنا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، من تصدير الحمضيات من أرض إسرائيل إلى أوربا، وكم كانت تجلب من الدخل. وكان برتقال يافا مشهورًا في جميع أنحاء العالم. لكن لا يُعرف سوى القليل عن البستنة العربية، ومن خلال هذا الاكتشاف بدأنا نتعرف البستنة العربية بشكل أفضل».
لكن كيف تفسّر كلير «انطماس» هذا التاريخ الشخصي لعائلتها، الذي يعترف مقدّم البرنامج نفسه بأنه جُهِلَ مع قيام الدولة الصهيونية ووقوع النكبة، إذ «مُنِع العرب من تجارة البرتقال، وقد يكون هذا سبب خسارة عائلة حجاج ممتلكاتها واضطرارها إلى الهجرة إلى لندن».
إن الكاتبة تعمّي على هذه الحقيقة المرّة وتنثر عليها كثيرًا من الضباب، وتريد أن تجعل القارئ يفهم قصة طرد أهلها وجيرانها من وطنهم ومحو تاريخهم الحضاري فيه على أنها كانت «مجرد مشكلة مالية»، حيث تقول: «وُلد والدي في أوائل الأربعينيات وأقام هنا إبّان حصار يافا، وفي أثناء حرب عام 1948 غادر الكثير من أصدقائهم، ولم يعد لديهم المال الكافي للعيش هنا؛ لذا دفعتهم الحالة المادية لبيع ممتلكاتهم والهجرة في الستينيات».
كما تفسّر علاقة والدها بأمها على هذا النحو (ويشي هذا التفسير بأنه «تلقيني»، تلقّته من والدتها)، فهي ترى أنه «عاش في إسرائيل بعد النكبة وتبنى العديد من جوانب الثقافة الإسرائيلية، حتى إنه حصل على جواز سفر إسرائيلي وتحدث العِبرية». وكلير لا موقف لها من هذا التأويل، كما إنه لا رأي لها فيما يعتقده أبوها شخصيًا، بل تريد أن تمارس دور المتحيّر بين «العين والمخرز»، ولعل ذلك هو ما يجعلها تتظاهر بجهل التفاصيل المرّة من تاريخ أسرتها، حتى يمكّنها هذا الجهل المدّعى من الاستمرار في أدائها، وهي تزعم في مقابلة لها مع قناة أمريكية أنّ تبنّي معادلة «محاولة معرفة الضحية من الجلّاد» أمر سهل، لكنه غير ممكن؛ لأن كلّ طرَف يضم أخيارًا وأشرارًا (يا لها من مفارقة!): «هذا الصراع هو مثل طفل سليمان، حيث يُطلب منك اختيار نصف واحد من الطفل ولا يمكنك أن تكون فلسطينيًا ويهوديًا في آن واحد. وتوجد طريقتان للتعامل مع هذا الأمر، إحداهما أن تختار نصفًا واحدًا دون الآخر، ويفضل كثيرون هذا الخيار؛ لأنها طريقة مريحة لتعرّف مَن البطل ومَن الشرير. لكن أنا لا أعيش في عالم أبطال وأشرار، ويصعب عليّ البقاء في وضع الحياد؛ وذلك لوجود أشرار وأبطال من الطرفين، وأنا عاجزة عن اختيار طرَف دون الآخر أيدلوجيًا. أنا أحكم على ما يحدث وعلى ما أرى».
إن استعارة «طفل سليمان» التي توردها كاتبة الرواية إنما تحيل على قصة المرأتين اللتين تنازعتا في طفل بين يدي سليمان عليه السلام، فأراد أن يجري عليهما اختبارًا نفسيًا لكشف الأمومة، فعرض عليهما أن يقطع الطفل نصفين ويقسمه بينهما ما دامت معرفة والدته منهما متعذّرة، فتنازَلت أمه عنه لغريمتها؛ إبقاءً على حياته، وعندها اكتشف سليمان أنها هي الأم؛ فقضى بالطفل لها، فهل ترمي كلير إلى أن تقول: إنها تودّ أن تتنازل عن فلسطين للصهاينة لمجرّد أنها تخشى هلاكها؟ وأين المُعادل الموضوعي لسليمان في واقع اليوم، حتى يقضي بالطفل لأمه الحقيقية؟!
وتستمر الكاتبة في التوضيح: «أنا يهودية وفقًا للدين اليهودي، ومسلمة وفقًا للاعتقاد الإسلامي، وفلسطينية وفقًا لعائلتي، وبريطانية يهودية وفقًا للطرف الآخر من عائلتي. لكن من منظوري أنا أمّ، وأنظر إلى ما يحدث كما يفترض أن تراه الأمهات. أنا مستاءة وعاجزة أمام هذا الكم من القتلى. أنا بصدد مجتمعَين أحبهما، أحبهما رغمًا عني وهم يمزق بعضهم بعضًا، والنتيجة هي الخروج بأيدٍ فارغة. النقطة الأهم هي أنه لا يمكن إنجاز شيء للفلسطينيين واليهود من هذا القتال، لن يتحقق الأمن أو الكرامة أو الحرية».
ليس استنتاجي أن هذه الأفكار إنما أتت من تأثير تربية الأم على ابنتها من «عندياتي»، بل استفدتُ مادته من لقاء منشور معها على منصة أمريكية: «عندما كانت كلير في الخامسة شرحت لها والدتها قصة الانقسام داخل عائلتها والقضايا الكبيرة التي تفصل والدتها ووالدها». وتقول عن هذا: «منذ ذلك الحين وأنا أسأل نفسي: أي طرف على صواب؟ وأي طرف هو الظالم؟ وماذا تعني العدالة؟ ما الذي يفترض أن أفعله؟ لست متأكدة ما إذا كانت لدي إجابة الآن». ثم تضيف: «بدلًا من الحديث عن العدالة، أفضّل أن نتحدث عما يمكننا الآن لضمان حقوق أسلافنا، وهو أن يحظى أطفالنا بالسلام والحرية والأمان».
لكن هل نفَت المؤلفة الشطر السيري الذاتي من روايتها؟ وهل هذا الشيء الوحيد الذي تريد مواربته؟
الواقع يؤكد أنها تفعل الشيء وضدّه، فهي تعمّي على بعض الحقائق، وتتظاهر بأنها اكتشفَت بعضها توًّا (هل من السهل على فتاة نشأت بين يدي والدها الفلسطيني أن تجهل تاريخ عائلته المطموس وامتلاكها شركة معروفة ناجحة للبرتقال في يافا؟ أشك في ذلك)، ثم هي تعترف، كما في بعض الصحف الإسرائيلية، بأن نصف الرواية مكوّن سيرتها الذاتية، وأنها إنما كتبتها لتوضح لابنتها تأثير الطرفين (الفلسطيني والإسرائيلي) في حياتها، ويظهر أن كتاب كلير «تناول تحديات الحياة الزوجية بين والديها اللذين حاولا التغلب على العقبات السياسية والثقافية، لكن النزاع أسفر في النهاية عن انفصالهما بعد 25 عامًا. وتجربتها الفريدة كنصف يهودية ونصف فلسطينية، وتشير إلى وجود «عمى متعمد» في عائلتها فيما يتعلق بالصراع. وتعبّر عن قلقها من المستقبل، ولا ترى أن إسرائيل قادرة على البقاء كدولة لليهود فقط» (هل في هذا إيحاء بأنها ترفض «حلّ الدولتين» الذي لا يرفضه إلا الصهاينة الخُلّص أو من يقابلهم في أقصى الطرف الفلسطيني الآخر؟).
وتواصل المقالة: «تكشِف كلير أن والدها اختار قطع علاقته بها، ولا تعلم كيف كانت ردة فعله تجاه الكتاب. وأما والدتها فقد قرأته، ولكنّ آراءهما حول الصراع تختلف [هكذا، اختلافًا مُرسلًا لا نعلم ما هو]. وتعبر عن تشاؤمها بشأن المستقبل، كما ترى أن منظورها الفريد قد يجعلها مؤهلة لتكون وسيطة في المنطقة» (ما بين المعقوفتين من عندي، كما سبق).
ويجتمع هذان الشيئان (أعني الزعم الكليري وضده) في مقالة لها على موقع صحيفة أمريكية، فهي تتحدث عن تأثير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في حياتها الشخصية والعائلية، وكيف أدى هذا الصراع إلى انهيار زواج والديها. وبعد ذلك تبيّن أن روايتها تقدم نظرة فريدة إلى الهوية والعلاقات الشخصية في سياق الصراعات الكبيرة، وتسلط الضوء على التحديات التي يواجهها الأفراد الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية مختلفة. وتتطرق إلى تأثير هذه التحديات في هويتها الشخصية وتفاعلها مع الأمور السياسية والاجتماعية في المنطقة.
وتذكر أن يافا «مدينة حاضرة مليئة بالأساطير والذاكرة، وتمثّل جوهرةً متعددة الثقافات في الشرق العربي: كان والدي الابن الأكبر لمزارع برتقال مسلم ثريّ. قضى طفولته يلهو في أزقة يافا، بين أسواق يديرها اليهود الشرقيون، وبين بساتين البرتقال التي يملكها العرب المسيحيون والمسلمون، وفي المنازل التي بناها الأرمن والأوربيون والأمريكيون، حيث كانت عائلاتهم تشارك في أعمال تجارية مشتركة».
لكن كيف يمكن الجمع بين هذين الضدّين؟ أعني: بين ما سبق إقرارها بأنها تعلمه مِن قبل وبين ذِكرها أن كثيرًا من هذه التفاصيل ظلت غائبة عنها ولم تعرفها إلا بعد نشرها روايتها. وخذ إليك هذا المثال، عن مدرسة طبيعية كانت تجمع طلابًا من الديانات الثلاث في يافا، تقول كلير: «عرفت لأول مرة عن وجود مدرسة طبيعية العام الماضي، بعد نشر روايتي «برتقال إسماعيل»، وكانت الرواية سببًا في تلقيّ رسائل بريد إلكتروني من أبناء المدرسة الذين احتفلوا مؤخرًا بالذكرى المئوية والخمسين لتأسيسها. وقابلت صديق والدي القديم الذي لم يبد متفاجئًا بزواج والدي من يهودية. ولماذا يتفاجأ؟ فالمدرسة مكوّنة من يهود ومسلمين ومسيحيين، كانوا يعرف بعضهم بعضًا ويحب بعضهم بعضًا منذ الصغر».
وهل بقي شيء آخر غير هذا مما تخفيه كلير حجاج؟
تتبعتُ نشاط الكاتبة على مواقع التواصل الاجتماع، وقد طالت هذه المقالة حتى ما عادت تحتمل أن أدليَ بكلّ دلوي في هذا الشأن، لكنني أخبر القارئ فحسب بأن واقع النشاط الكثيف للكاتبة في وسائل التواصل يشي بأنها ربما حذفَت عددًا غير يسير من تغريداتها وتدويناتها، فهي انضمت إلى «تويتر» (إكس حاليًا) عام 2011، وعلى رغم مرور نحو ثلاث عشرة سنة على ذلك فإن حضورها على المنصة يبدو لِمن يحسن الظن محدودًا، إذ بلغ عدد منشوراتها حتى الآن 992 فقط. وبدأَت مشوارها على «فيسبوك» عام 2006، ولكنها سخّرته لمشاركة لحظات عائلية خاصة حتى عام 2014. وبعد ذلك ظلّت مشاركاتها قليلة على الموقع، تدور حول عائلتها وتعليقاتها في أيام ما يسمى «الربيع العربي»، بخاصة في سوريا. أما حسابها على «إنستقرام» فهو مقفل خاص. ويلاحظ أن حساباتها لا تحوي أي مقالة أو مشاركة في أي وسيلة إعلامية رسمية قبل نشر «برتقال إسماعيل» عام 2014، وقد عزّزت نشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام الرسمية على نحو ملحوظ بعد ذلك.
منتقى من حضور كلير حجاج الإعلامي والإلكتروني، حول روايتها وموضوعها، بين عامي 2014 و2023:
- تغريدة في ١٧/٧/٢٠١٤ تتساءل فيها عن الهدف من إعطاء أطفال غزة هدنة خمس ساعات فقط لتأتي الدبابات الحربية وتدمر منازلهم في نهاية اليوم.
- تعلن صدور «برتقال إسماعيل» على «فيسبوك» في ١٨/٧/٢٠١٤.
- مقالة «ما شعور أن تكبر نصف يهودي ونصف فلسطيني؟» بتاريخ ٢٩/٨/٢٠١٤م على موقع صحيفة «تلقراف» البريطانية.
- تغريدة في 23/5/2015 تعبّر فيها عن فرحتها بالشروع في ترجمة روايتها إلى العربية، ويرد عليها مؤسس دار «أثر» بسعادته بترجمة الرواية «البديعة»، ويصحح لها معلومة متعلقة بأن دار النشر سعودية لا مصرية.
- تغريدة في ١٢/٥/٢٠٢١ تقول فيها إن «حماس» قد تكون ألد عدوّ للفلسطينيين.
- تغريدة في ٨/١٠/٢٠٢٣ تطالب بإيقاف جرائم «حماس» ضد الأطفال والإنسانية.
- تغريدة في ١١/١١/٢٠٢٣ تسأل فيها إسرائيل: كيف يساعد قتل الرضّع على حماية إسرائيل.
ثم بعد ذلك صمَتت كلير حجاج حتى لحظة كتابة هذه المقالة، أو أن الصباح أدرك «شهرزاد»؛ فسكتت عن الكلام المُباح.
بين الإسماعيلي «العُطيلي» والإسحاقي «القِدِّيس»
بعد كلّ محطّات هذه الجولة المطوّلة – وليعذرني القارئ؛ فأنا أقدّم هنا نموذجًا مفصّلًا لقراءة النصوص الأدبية، ولست أكتب مقالة مراجعة فحسب – أجد أننا أصبحنا على استعداد كافٍ لمقاربة رواية «برتقال إسماعيل» التي صدرت عام 2014م بالإنقليزية، وطبعَتها دار «أثر» عام 2017، بترجمة تحمل اسم نوف الميموني، وهي ترجمة متواضعة عليها بعض المآخذ (وهذا أمر يثير سؤالًا حول تفاوت مستوى ترجمتين صدرتا في العام نفسه باسم هذه المترجِمة، إحداهما «ما رواه المغربي» والأخرى «برتقال إسماعيل»، فقد كانت العناية في هذه الجولة من الترجمة بضبط مقاطع اللغة العربية أقل من عنايتها بحواراتها التي حكَتها باللهَجات العامية، حتى إن كثيرًا من مقاطعها الفصيحة بدت في حال يرثى لها).
«سالم الإسماعيلي» طفل مسلم ناشئ في يافا، يشعر بالإعجاب الشديد تجاه قلب الأسد بدلًا من صلاح الدين! ويسخر من السلطان عبدالحميد ويصفه بالشحّ وقلة الصبر.
هو لا يتذكر من أبيه إلا قسوَته وجورَه وخوَره وأنانيّتَه، فهذا الأب «خليط معقد لرجل يعشق المال والكسل والقهوة»، وهو يصطحب أخاه (حسّان) إلى القطاف بدلًا منه، ويرفع يده بخاتمها الضخم ليهوي بصفعة قوية على وجه الطفل (سالم)، حتى تنغرز أسنانه في شفتيه!
وينظر «سالم» إلى شفة أبيه المتهدلة، الشفة نفسها التي قالت «لا» الأسبوع الماضي لذهابه إلى القطاف، وقالت «لا» لشجرة البرتقال التي غُرست من أجله، وقالت «لا» لفكرة أمه في إقامة حفل عيد ميلاد له مثل أولاد البريطانيين.
ويسمع نفسه وهو يقول: «يا رب يجو اليهود ويطردوك».
نحن أمام عمَل ملتبس عن موضوع شائك، فالكاتبة كلير ذات الأب الفلسطيني المسلم والأم البريطانية اليهودية تعيد صياغة تجربة أسرتها في قالب مغبّش، فهي لا تكتفي بنقل انكسار نفسيات الصغار بسبب تعرضهم للعنف الجسدي، بل تتجاوز ذلك إلى إبراز ربّ الأسرة العربيّ كائنًا عُطيليًّا راسكولينكوفيًا كارامازوفيًا عاطفيًا عنيفًا شبِقًا مولعًا بالمال مهووسًا بالصدام ناضحًا بالعرَق تفوح من جلده نتانة الخوف مليئًا بالشكّ والعُقد النفسية، كأنما تريد أن تحيل كل القبائح التي ألصقها شيكسبير بـ«تاجر البندقية» وتنقلها إلى الرجل العربي، باستثناء صفة واحدة، هي القدرة على الربح. وذلك يحدث في عمل تظهر فيه المرأة البريطانية اليهودية في هيئة: زوجة محِبّة عطوف إنسانية قادرة على إيقاف العربيّ المتهوّر عند حدّه حين يلزم الأمر.
قد يُقال: إن هذه الرواية عمَل سيريّ، والكاتبة تُشرك القارئَ في حياة عائلية حقيقية تصوغها في قالب خياليّ. لكنّ المعضلة هي أن أدبيّات العائلات اليهودية اليسارية هي المستحوذة على روح هذه الرواية، وبناء على ذلك قد يبدو، كما مرّ معنا، أنها عمل يتخذ لنفسه موضعًا وسط الآثار الأدبية اليهودية، بقطع النظر عن حقيقة أن السارِدة التي تنقل إلينا هذه السيرة السردية لها موقف إيجابي من انتهاكات الاحتلال أو انحدارها «بيولوجيًا» من أب فلسطيني مسلم.
لقد تخلص اليهود تقريبًا، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، من آثار «تاجر البندقية» في الأدب الغربي، ولم يبق منها في الأدب العالمي بعد بلزاك ودوستويفسكي ومَن جاء بعدهما إلا كتابات يسيرة، مثل رواية «الطريق إلى بئر سبع» للإيرلندية إيثل مانين، و«جسر بنات يعقوب» لحسن حميد صاحب كتاب «البقع الأرجوانية في الرواية الغربية» (وهذا الأخير عرَبي؛ فلا ينبغي أن يُحتسب). وما عاد أحد من أحفاد فرويد يخشون على أخواتهم أن يقرأنَ نصوص بلزاك العنصرية (ذكرت هذا الأمر مارقريت ماكنهوبت في كتاب «سيقموند فرويد مكتشف اللاشعور»، ونصه: «قرأ فرويد أيضًا مسرحيات شيكسبير في اللغة الإنقليزية. وكقارئ ممتاز حتى في شبابه، أخذ على عاتقه مراقبة الكتب التي تقرؤها شقيقته. أخبر أنّا وكان عمره في حينه 15 عامًا أنها لا تستطيع قراءة أعمال الكاتب الفرنسي أونر دي بالزاك الذي ألّف سلسلة من الروايات تحت عنوان «الملهاة الإنسانية»؛ لأنها كانت عنصرية جدًا»).
وفي روايتنا تكاتب الجدة «ربيكا» حفيدتها، وتعرّف لها فلسطين كما يأتي:
«هذه الخطوة الأولى نحو عالم جديد، لا يضطر اليهود هنا إلى الاختباء، ولا يخشون أي طارق على الباب. تستطيعين أن تحتفلي بحياتك في كنيس وأنتِ محاطة بأسرتك، لا على عربة قذرة قديمة تلاحقها الأشباح. حتى إن اليهود اليوم وجدوا وطنًا لهم، ورفعوا علَمهم بين الأعراق والديانات الأخرى».
وها إننا نرى كيف بُرّئ الساميون، من غير العرب، على ورق الأدب الغربي والشاشات الفضية من كل شتيمة، وأما الرجل العربي المنحدر من سلالة إسماعيل عليه السلام فإنه لا يزال مطارَدًا فيها بوصمات «عطيل» الذي يتجلى أمامنا، في «برتقال إسماعيل»، حاملًا لقب «الإسماعيلي» تحديدًا.
وكما قد يخيّل إليك، فالنص توراتيّ بتأويل نفساني، على ألسنة يهود بريطانيين بعد منتصف القرن العشرين، يقول «توني» لـ«جوديث» في روايتنا:
«أتعرفين قصة أصل اليهود؟ ليست قصة موسى.. بل القصة الأولى»؟
شعرت جود بالضياع: «إبراهيم»؟
«نعم، هو. إن قصته من أسوأ القصص. أولًا يتزوّج امرأة في الثمانين، ويخبرها أنها ستكون أمًّا لقوم كثيري العدد. ثم تصاب بالغيظ والقهر لأنه لا حيلة لها، فهي لا تستطيع الإنجاب. فيعاشر جارية اسمها هاجر، ثم يأخذ الاثنان الطفل منها. ثم عندما تحمل العجوز بطفل ماذا فعَل؟ يحاول أن يضحّي به على جبلٍ لأنه سمع صوتًا ظنّ أنه مِن ربه يأمره بهذا. قصة رائعة! لا عجب أننا فخورون به... فتخلصا منها.. الفتاة العربية التي أنجبت الطفل الأول. سموه إسماعيل. وهو خليفة إبراهيم الحقيقي. أصابت الغيرة سارة وأرادت كل فضل الرب لصغيرها إسحاق. ويخبروننا أن هاجر وإسماعيل خرجا إلى الصحراء. فتاة وطفل، لوحدهما في تلك الحرارة، أرسلهما إبراهيم إلى حتفهما. علّمنا الحاخامات أن هذا ما قدّره الإله لهم، من أجل أن يخرج الشعب المختار. وقد خرج من إسماعيل شعب آخر، فلم يقع أي ضرر في النهاية، أليس كذلك؟ لكنني أؤكد لكِ أنه لا يوجد عربي على وجه الأرض لا يحمل في داخله جزءًا من إسماعيل. ومن يلومهم؟ إنهم منبوذون دائمًا. نبَذهم الرب أولًا، ثم طردهم الآخرون. ولن يتوقفوا أبدًا عن القتال ليجدوا مكانهم».
وتلقّن «الجدة ربيكا» حفيدتها «جوديث»: «أنت واسمك هذا الذي يشغلك! دعيني أخبرك بشيء مهم. إن لاسمك تاريخًا مذهلًا. عندما أرسل نبوخذ نصر قائدًا قاسي القلب ليدمّر اليهود تسللت جوديث الشابة إلى خيمته. أتعرفين ماذا فعلت بعد ذلك؟ سقته الشراب حتى ثمل ثم حزّت رأسه. فتفرق جيشه. وأنقذت جوديث قومها. جوديث هي المرأة القوية في كل عصر يا جودتي. أرأيتِ أنّ اسمك ليس سيئًا على الإطلاق»؟
هذه الوصية هي التي تمتثل أمرها «جوديث» في الكويت، حين تكتشف أن زوجها «سالم» يجمع أموالًا للمقاومة الفلسطينية: «استيقظت مع أولى خيوط الفجر. قفزت من السرير، وسحبت الدرج الذي كانت تحتفظ فيه بالمينورا... شعرت فجأة بيأسها يتحول إلى عزيمة: كوني شجاعة، كوني مينش» (هذه العبارة الأخيرة كانت تكررها جدتها على مسمعيها).
إن «جوديث»، التي تحب العطيلي الإسماعيلي (سالم) تبدو متعاطفة مع العرب حين يهاجمهم اليهود، ولكنها في الوقت نفسه تتبع وصايا جدّتها التي تؤمن بأنّ اليهود عثروا على أرض في فلسطين ليلموا فيها شمل جميع اليهود، وتقف بالمرصاد لزوجها حين يفكر في دعم المقاومة، والزوج لا يستطيع أن يثبت أنه رجل شديد البأس، ولا يمكنه في الوقت نفسه أن يحافظ على وقاره ورباطة جأشه والنأي بأسراره بعيدًا عنها.
تقول «جود» له في رسالتها: «سال... لقد خنت وعدك. لم أفعل هذا إلا لكي أنقذ أسرتنا. سوف نذهب إلى بلدنا. كيف يبلغ بك العمى هذا الحد يا سال؟ يهود أو عرب.. ماذا يهم أيهما نكون؟ كيف تجرؤ على أن تقحم طفلينا في حرب لم يبدآها»؟
إحراق نقود المقاومة الفلسطينية، وتفجير منزل بيت الشموطي (بيت عائلة «سالم» الذي يريد استرجاعه)، تانِكَ هما الطريقتان الفاصلتان اللتان تخلّصت بهما «جوديث» وابنها «مارك» من محاولات «سالم» نصرة قومه في فلسطين، أو التخلي عن أسرته «المهجّنة» والعودة إلى «بيت الشموطي» في يافا؛ فقد أحرق «مارك» منزل جده «الإسماعيلي» الذي كان يريد والده أن يستعيده، لأنّ ذلك البيت انتزع والد «مارك» منه!
ولا تسأل بعد ذلك: أكانت زوجته أو ابنه يؤيّدان القمع الإسرائيلي في فلسطين أو مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان؟ فإن «قلوبهم مع الحسين، لكنّ سيوفهم مع بني أمية».
في الرواية مواضع محيّرة تبدو غير متسقة، أو تسفِر عن خلل في بناء الشخصيات التي تعرضها على الأقل، فبطل العائلة «ماكس» ما هو إلا «قديس» عاد من الحرب بعد تأمين «اليشوف» ودحر الجيوش العربية الخمسة، واختفاء نصف الأهالي العرب على آثارهم.
وإذا تأملنا هذا ثم انتقلنا إلى ما بعدَه في الرواية فإننا نجد وجهًا من التناقض، فـ«ماكس» الذي كان يطلق النار على العرب ويرمي أهل البلَد الأصليين بالنار، ذلك الجندي الأشدّ يصبح مزارعًا مدنيًّا، وعندما يُصاب برصاصة من جرّاء المواجهات فإن كل شيء ينقلب على عقبيه، وتقول «ربيكا»: «يا ولدي المسكين!... ألن ننتهِي من كل هذا العذاب؟ أتى أوّلًا الروس، ومِن بعدِهم الألمان، والآن يصاب ابني برصاصة وهو يركب حافلة! متى سيتوقف هذا العذاب»!
ثم يعلق والد «جوديث» على الحدَث قائلًا: «يا للأسف يا جوديث! إنه ليس سوى مزارع يحصد ويحرث ويبني بيديه، ما الضرر فيما يفعله»؟

عبدالواحد الأنصاري باحث وروائي ومُراجِع سعودي، صدرت له العديد من الروايات والمجموعات القصصية والمراجعات، وبحوث أخرى. يمكن متابعة حسابه على تويتر@abdulwahed1978

bottom of page