top of page

القرية

محمد حسن


(١)
خيالي
يطلُّ على قريةٍ
أهلهَا نائمون
وكان يلوحُ دُخان كثيف مِن النخْلِ
خضراء صارتْ غيوم الضحى آنذاك
وما استيقظوا قطَّ
حتّى أتاهم عجوز علاه المَشِيْب يدكّ الثرى بعصاهِ
ويصرخُ فيهم "ألا لعنة الربِّ تُلقى عليكم"
وهم لا يزالونَ فيها نيامًا
فظلّ العجوزُ الكبيرُ يجوبُ الزِقاقَ وحيدًا
تدكّ عصاهُ الثرى ويدكّ هو العمْرَ تمْرًا
يقول إلى الربِّ: "مَنْ أضرمَ النخلَ بالعارِ مَن يا إلهي؟ فبتُّ أنا صنْو عُرْجُونِ نخْلٍ قديمٍ، ووجهيَ كالغيمِ أخضرْ".

(٢)
"بيوتًا رعتْها ضفائرُ سودٍ
تراصّتْ على بعضِها
تصبغُ الشمسُ جُدْرَانَها المُشْتَهَاةِ
وبابُ الحنينِ خفيف على الطارِقِين"
يقول العجوزُ إلى الطفلِ وهْوَ يحطُّ العِمامةَ حطَّ الرغيفِ الأخيرِ برفقٍ حزينٍ
"يُسمّونَها قريةً، وهِي الآن ليستْ سِوى اسمٍ"
يقول له الطفلُ "هلّا حكيتَ المزيد مِن القِصّةِ اليوم؟"
يحكي العجوزُ "غدًا يا بنيّ، تصبّرْ، تصبّرْ"
يعودُ الصغيرُ إلى حيث جاءَ:
مِن الذكريات العتيقةِ في الحجرِ المُنْزَوِي
فكان يجيءُ له كلَّ يومٍ
ليحكي العجوز له قِصّةً حلوةً عن سدى قريةٍ...أهلها لا يزالون فيها نيامًا
"غدًا يا بنيَّ، تصبّرْ"

(٣)
"بعيدٌ هو البحرُ
نسْعَى إليهِ
ونأملُ قُرْبًا قَصِيًّا
فكنّا نغنّي بملءِ حناجِرنا
كيْ نرى البحرَ ليس بعيدًا
وأقدامنا تسرقُ الرملَ حين نعودُ
ونحملُ مِلْحَ النُّزُوْعِ على الظَّهْرِ وِزْرًا عُتُلّا
فتشذو روائِحُنَا بيْن أهلٍ وجارٍ
وتنفذُ كالريح بيتًا فبيتًا
فهمْ يُشْرِعُوْنَ نوافِذَهمْ
ناشِرِيْن على الحبْلِ سجّادَةِ العُرْسِ والحُزْنِ
مِثل دُموعِ نَبيّ تعلَّق بينَ سماء وأرض
فهم آمِلونَ من الربِّ ودْقًا وبرْدًا وظِلًّا ودفْء
ففي قرْيةِ الحَالِمِين
تَرَى الأُمْنِيَات على النخْلِ مَرْبوطَة مِثل قِنْوٍ وفيرٍ
يَطُولُ على يَدِ طِفْلٍ صغَيرٍ
فتَجْنِيْهِ كَفٌّ عتيقةْ"

(٤)
"وماذا عن اللَّيلِ؟" يسْألُه الطِفلُ
يحكي العجوزُ "هنا، كلُّ ليل له قِصّة، بل وفي كلّ ليل تموت وتولد ذِكرى،
ففي ليلةٍ مِن ليالي الإلهِ
وكانَ الشِّتاءُ شديدَ العذاب كثير العباب
تراءتْ فتاة
تضيء جمالًا وحُسنًا
فيطْفِئ نورَ القناديل مَلْمَحُها
تَرتدي مِعطفًا من نسيجِ الضبابِ
لها من جناحِ الفراشات حظّ
تجلّتْ وراء النخيلِ
وما إنْ تقرّبتَ منها، توارتْ كحُلْمٍ شهيّ
فلا أحدٌ يستطيع التقرّب منها
يُقال بأنّ الأهالي جميعًا رَأُوْهَا تحلِّق نحو السماءِ صباحًا
وثُمّ تعود مساء
لِذا لقَّبُوها "فتاة السَّرابِ"
ولكنّهم يا بنيّ لقد أخْطَأوا
هِيَ ليستْ كذلك
بلْ هِيَ ذكِرى جميلةْ"

(٥)
"وماذا عن الناس؟" يسأله الطفلُ
يحكي العجوزُ "هم الناس أيضًا قُرى، كلُّ فرْدٍ مليء بمعنى مِنَ النَّخْلِ والتَّمْرِ والخُبْزِ والصُبحِ والطِّيْنِ والعَيْنِ والبَيْتِ والسُّوْقِ والشّايِ والبنِّ والليْلِ والنُومِ والحُلْمِ بالأمْسِ والغَدِ واليَوْمِ، همْ ذاتُهم قريةً يا بنيّ،
فهمْ عُمْرَهُم يا بنيّ، يُعَدٌّ بقدْرِ الشقاءِ وطَعْمِ الهناءِ وبِضْعِ سنين،
لهمْ ما لهمْ مِنْ خَيَالِ القُرى
ولهمْ ما لهمْ مِنْ حَقِيْقَتِها
ولهمْ صورَةً قدْ أضاعَ المدى شَكْلَها
ثُمَّ لمْ يبْقَ مِنها سِوى شِبْهِ صورةْ"

(٦)
غفا الطِفلُ
تحْتَ الحِجارَة
باتَ العجوزُ وحيدًا
رمى بِعصاه الثَرى
ثُمَّ
مِن حيث لا شيء
ماتتْ على الأرضِ نخلةْ

أحَسُّوْا الأهالي بصوتٍ سحيقٍ
فَفَزُّوْا مِن النومِ فجْرًا
صِغارًا كبارًا، نساء رجالًا
أحَاطُوْا بأجْسادِهم "نخلة الرَّبِ"
تلك التّي لم تمتْ منذ خَلْق الخليقةْ

"لقدْ ماتتِ النخلةُ الآن..." قالوا
ومِن ثمّ عادُوْا جميعًا إلى النومِ، لكنْ
هنالِكَ
ثَمَّ دُخَانٌ يُخيّمُ نحو خيالي
أراهُ
أرى الآنَ...
أخضرَ
أخضرَ
أخضرْ


محمد بن حسن آل عمير يبلغ من العمر ٢٥ عامًا، من سكان القطيف، قرية الخويلدية. ممرض، وكاتب للشِعر، وله عدة محاولات لكتابة القصة القصيرة والمسرح.

bottom of page