top of page
القصة القصيرة

زنابقٌ في التراب

زيد الحمداني


(١)
جلس كلُّ واحد منا قبالة الآخر، كان يأكل البطةَ المشوية التي أعددتها للغداء بنهم مفرط، شعرتُ وكأنه يأكل في جسدي، لستُ نباتية أبدا، لكنني أفكر دائما أننا لو عشنا في العصر الجوراسي مثلا لكنا وجبةً يومية في غداء ديناصور أو تيراصور. عموما، البقاء في الحياة ليس للأذكى أو الأقوى، البقاء لمن يقتل القتيل ويمشي في جنازته مرتاح الضمير، هذا الصنف من البشر يعمّر طويلا، لأننا نموت كل لحظة شفقةً وتعاطفا مع المظلومين فوق هذه الأرض، والجالس أمامي الآن، ووفق هـذه المعادلة، من المفترض أن يعمّر طويلا، لأنه لا يعرف الرحمة.
هذا الكائن النهم هو الحاج تقي عبد السلام، ولم أجد عنده يوما تقوى ولا سلاما. واليوم يصادف عيد ميلادي، الخامس والعشرين أو الخامس والثلاثين، لم أعد أتذكر حساب السنين. المهم اليوم هو عيد ميلادي الذي لربما نحتفل به معا للمرة الأخيرة.
كنتُ طالبة مولعة بمادة التاريخ، ومُدَرّسَتي في الثانوية الآنسة فيروز سببٌ حقيقي لهذا الولع، ما زالت جملتها ترن في أذني: "التاريخ يا زنابق أكاذيب يكتبها الخراصون ويصححها مكتشفو الآثار؛ الباحثون الحقيقيون يحملون أدلة صدقهم بأيديهم، لا كلمات مجانية تخرج من أفواههم." فدرستُ علم الآثار في الجامعة، وبعد التخرج عملت في موقع أثري متدربة نشطة تحفر الأرض بشغف وهِمة لتستخرج ألواحَ مجدٍ وحضارة، وتدفن ألواح حياتها، ألواح ألم وفجيعة. عشقت قراءة الطين وكانت روحي تذوب بين بقايا من عاشوا في أرضنا قبل آلاف السنين. العمل في المدافن التاريخية يضعني بمأمَن من احتمالات التعامل مع الأوغاد، فالعاملون في المدافن متواضعون كالتراب، هادئون كأجدادهم الراقدون منذ أحقاب، غرائزهم تنشط فقط لفك شفرة مسلة أثرية أو لوح مسماري.
لماذا تنشط الغرائز بطريقة غريبة وتشوه صاحبها تشويها ينزل به من مكانة الإنسان إلى حظيرة الحيوان؟ بل وأدنى من الحيوان، ذلك الكائن العفوي، الذي يلبي غريزته وفقا لوعيه، لا يؤذي أحدا حقدا أو شراهة. أما بعض البشر فتقود غريزتُه وعيَهُ، وهذا أخطر مخلوقات العالَم، تشويهاته متخفية في إهاب إنسان، وأنا كنتُ سيئة الحظ دائما فأقع فريسة المشوهين، مَثَلي كمَثل وردة في يد فحام، أو زنبقة في التراب.
قام إلى صلاة الظهر، وكنتُ بالكاد أستطيع كتم ضحكتي وأنا أتامل صلاة هذا المخلوق الممسوخ قلبا وقالبا، التفتَ إلي وقال بصوت فيه خشوع أفعى تنتظر فريسةً غافلة:
"تعالي لتصلي معي، صلاة الجماعة أجرها أعظم من صلاة الفرد"
"صليت قبلك" قلتُ له دون أن أنظر إلى وجهه، ولم يحاول مجددا.
يؤمن أقاربنا ومعارفنا بتقوى الحاج تقي، وكثيرا ما كانوا يأتون ببناتهم وأولادهم ليقرأ عليهم سورا من القرآن ويدعوا لهم بالحفظ والهداية. كنت أجاهد لثني الأهل عن تقديم أطفالهم لينالوا بركاته، فيضحكون ويظنون أنني أغار من محبته لأولادهم. كنت أصرخ في داخلي: "أنا خائفة على أولادكم أيها الحمقى، والله أنا خائفة عليهم." لم أجرؤ ولا مرة على مصارحتهم بما يعتمل في داخلي، كنت متيقنة حينها ولربما حتى اللحظة أن لا أحد منهم سيصدقني، فأضطر للسكوت.
لا أتذكر بالتحديد أول مرة نلت بها بركات الحاج تقي، أحاول دائما قتل أورام الماضي لعلي أفسح مجالا للشفاء في قادم الأيام، رغم ذلك فلست قادرة على نسيان تلك الليلة التي نمت فيها منهكة بعد أن قضيت يوما طيبا وطويلا مع ابنة خالي. كان أول يوم من أيام عيد الفطر، وبين يقظة ومنام تنشقت رائحة عطنة ليست غريبة علي، كانت هي رائحته التي أجاهد منذ سنين لأطمسها من ذاكرتي. بعدها أحسست بجسده ممتدا فوق جسدي الذي بات محصورا بين فراش صلب وجسد أكثر صلابة. ارتعبت وكأني محشورة بين شقي جبل، وأيقنت ألا مفر. حاولت النوم لأقول إنني في أتون كابوس، وسينتهي لا محالة، فأغمضت عيني بينما كان الوحش ينتفض فوقي. استيقظت منهكة جدا، حاولت أن أبكي، لم أستطع، وكأنني في عزاء غير معلن، صار يتكرر مرات ومرات في الشهور والسنوات التي تلت تلكم الليلة المشؤومة.
بعد أن أتم صلاته، بدأ الحاج تقي يتلوى فجأة من ألم هائل، أراد أن يستغيث فلم يسعفه صوته، تمدد مشلولا فوق سجادة الصلاة، لم أحرك ساكنا. جلستُ أراقبه بلذة وهو يئن أنينا مروعا. سجادة صلاته ليست غريبة عني، كان يحملها معه أينما ذهب، ولي فوقها أحداث لست أنساها. ففي الأيام الخوالي كان يطلبني بعد أن يتم صلاته، وهو بنفس جلسته، ليقبّلني كما يقبّل الرجلُ امرأته. راودتني أيامها فكرة مخيفة؛ أن أحرق شفتي بالنار، ليتركها وشأنها، لكني لم أفعل، ولم يتركني قط.


(٢)
جلس كل واحد منا قبالة الآخر، كان يأكل البطة المشوية التي أعددتها للعشاء بنهم مفرط، شعرتُ وكأنه يأكل في جسدي، لستُ نباتية أبدا لكنني أفكر دائما أننا لو عشنا في العصر الجوراسي لكنا وجبة يومية في غداء ديناصور أو تيراصور. عموما، البقاء في الحياة ليس للأذكى أو الأقوى، البقاء لمن يقتل القتيل ويمشي في جنازته مرتاح الضمير، هذا الصنف من البشر يعمر طويلا، لأننا نموت كل لحظة شفقة وتعاطفا مع المظلومين فوق هذه الأرض، والجالس أمامي الآن، ووفق هـذه المعادلة، من المفترض أن يعمر طويلا، لأنه لا يعرف الرحمة.
هذا الكائن النهم هو المهندس فهد منصور، ولم أجده يوما فهدا ولا منصورا. واليوم يصادف عيد ميلادي الخامس والعشرين أو الخامس والثلاثين، لم أعد أتذكر حساب السنين. المهم اليوم هو عيد ميلادي الذي لربما نحتفل به معا للمرة الأخيرة.
فهد وسيم الملامح، ممتلئ قليلا، ابتسامته مميزة، كنا على وئام في أشياء كثيرة، عنده شخصية مرحة أغلب الوقت، بل كل الوقت، سألني مرة ونحن قاب قلبين أو أدنى من لحظة حميمة:
"مَن اِختار لكِ اسمَك العذب يا زنابق؟"
"أبي هو من اختار لي اسمي، كان أيام شبابه، وقبل أن يذهب إلى مكة للحج، ناشطا في الحزب الشيوعي العراقي، ومعجبا بالشاعر عبد الوهاب البياتي، وكثيرا ما كان يدندنُ أبيات شعر حفظتها منذ أول مرة سمعتها منه."
حررتُ جسدي من يدي فهد، ووثبت برشاقة مهرة أًصيلة إلى حافة السرير. تخيلت نفسي أمامَ حشد هائل من الهائمين بالشعر، وبدأتُ أُلقي كلمات البياتي وكأنها أنزلت علي من سماء الشاعر ساعة إلهام:
أهكذا تمضي السنون؟
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء، يا قَمَرِي، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت
ولتكتمل القصيدة لابد أن أبكي بمرارة في كل مرة. أبكي بكل وجداني، وكأن البياتي كتبها لي وحدي، لكنني لا أبكي مخذولة ولا مكسورة، فدموعي فرحة عارمة. أخطأتْ فمي وتسللتْ إلى عيوني. أنا مصممة على الفرح، وقمري لن يموت، وقطاري لن يفوت.
عشتُ بوئام وسلام مع فهد عدة سنوات، حتى كان صباح يوم مشهود، عدت فيه مبكرة إلى البيت من سفرة إلى موقع أثري، مع زميلات لي في الجامعة، كان فهد في عمله، تحممتُ وأعددتُ كوب قهوة وجلست أتصفح بعض مواقع الإنترنت بحاسوبه الذي اشتراه مؤخرا، كانوا يطلقون عليه أيامها بنتيوم ٤. لمحتُ ملفا على سطح المكتب باسم "صورنا" فتحته فوجدت حفنةَ ملفات بأسماء مختلفة؛ عيد الحب، الجامعة، بيتنا القديم. شاهدتُ محتوياتها من قبل. ثم رأيتُ ملفا جذبني اسمه؛ "فهودي." فتحته بفضول، ويا ليتني لم أفتحه. بحلقت مصدومة في أيقونات الصور وهي صغيرة قبل تكبيرها، تخيلت أن عيني ترى وهما، فركتها، وحدقت في الصور مجددا، لا هذا ليس وهما، كبرت الصور، أفزعتني المناظر، كان قلبي يدق بقوة حتى صرت أسمع ضجيجه في أنحاء الغرفة، طامة كبرى، ومصيبة أخرى تجتاح حياتي، وكأني متعهدة مصائب، أو راعية نكبات نفسية.
لربما يُخيل لمن يقرأ كلماتي أنها صور اباحية من الإنترنت، ليتها كانت كذلك، أو صور اباحية لفهد مع نساء أخريات، ليتها كانت كذلك، هي اباحية فعلا، وفيها فهد فعلا، لكن لم يكن هو الفاعل في الصور، بل كان المفعول به، يا الله، تقيأت ساعتها مرات ومرات، حتى كدتُ أتقيأ جوفي وأحشائي كلها، وصرت بعدها أتقزز من جسدي، من كل جزء أو بقعة مرَّ عليها يوما، وأتذكرُ جملةً كنت أرددها وأنا أندب وأنحب: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسيا منسيا.
تعايشت مع قدري وخشيت فضيحة تهز حياتي، وانتظرت فرصة أفرُّ فيها من هذا الوحل. لم تأتِ الفرصة المناسبة لسنوات، حتى فاض بي الوجع يوما، وفي ساعة عزيمة وجدتُ شجاعةً في قلبي، فصارحت أخي بحقيقة فهد، توقعته أن يرعد ويزبد، ويلعنني لأني ساكتة عن مريض خطير يحتاج علاجا عاجلا، لكنه قال لي بصوت خاشع: "أسأل الله أن يهديه، وأدعو له بالتوبة، ومن تاب فقد تاب الله عليه." ذهلتُ تماما، تخيلتُ أن أخي مصاب بنفس الداء، وصرتُ أمشي في الشوارع، وألعب مع نفسي لعبةً منحطة؛ كلما مرَّ رجلٌ أمامي أقول هذا مثلي، لا لا هذا سوي، أَبني توقعاتي على طريقة مشيته، حركة يديه، ضيق سرواله، ونظراته إلى النساء من حوله، جنون ما بعده جنون.
بعد أن أتى فهد على البطة المسكينة، مسح يديه بمناديل معطرة، ثم جلس بأريحية على الكنبة، وتناول الشاي، وأكل معه قطعتي حلوى تركية.
كم توسلتُ إليه من قبل أن يتركني أمضي بعيدا عنه، ووعدته أن أحفظ سره، ولا أبوح بحرف واحد لمخلوق، لم يعطني حريتي، بل أصر أن يعيش معي كرجل، يمارس معي فحولته المزيفة، ويستمتع بصوت غثياني بعد كل لقاء مرير يجمعنا في السرير.
قام إلى صلاة العشاء، وكنتُ بالكاد أستطيع كتم ضحكتي وأنا أتامل وقوف هذا المخلوق فوق سجادة الصلاة، التفتَ إلي وقال بصوت فيه خشوع مُفتَعل:
"تعالي لتصلي معي، صلاة الجماعة أجرها أعظم من صلاة الفرد"
"صليت قبلك" قلتُ له دون أن أنظر إلى وجهه، ولم يحاول مجددا.
بعد أن أتم صلاته، بدأ يتلوى فجأة من ألم هائل، أراد أن يستغيث فلم يسعفه صوته، تمدد مشلولا فوق سجادة الصلاة، لم أحرك ساكنا، جلستُ أراقبه بلا مبالاة وهو يئن أنينا مروعا، ثم تكور حتى التصقت بطنه بفخذيه، نظرتُ إليه مشفقة وحاقدة، وتركته يواجه أوجاعه، كما تركني يوما أواجه أوجاعي.


(٣)
أسوأ أنواع الجرائم جريمةٌ تذبح روحكَ وتترك جسدك سليما، لتعيش حياةً الموتُ أشرفُ منها، فكيف لو ذبح أحدٌ روحك وحطم جسدك في آن واحد؟ هذه المذبوحة روحا وجسدا هي زنابق تقي عبد السلام، ابنةُ منحرفٍ قتَلَ طفولةَ ابنته، وانتهك معنى الأبوة في قلبها، وزوجةُ شاذٍ أخذَ شبابَ زوجته، وبدد فرحتها برفيقِ حياةٍ سوي.
وحشان سلبا مني كرامتي عشرات المرات، دون أن يحاسبهما أحد. لم أتخيل يوما أن بوسع بطة لا حول لها ولا قوة أن تأخذ حقي في نهار وليلة. بطة طبختها بماء عيني، وتبلتها بأجود أنواع التوابل، وشويتها فوق نار هادئة ساعات وساعات، حتى خرجتْ وجبةً فاخرة، ثم دهنتها بخلطة سحرية، من سموم محلية، تشلُّ الأعصاب، ولا تقتل، تُفقِدُ الإنسانَ قدرته على النطق، لكنه يحتفظ بعقله كاملا، عدالة اخترتُها لهما في الأرض، تمهيدا لعدالة موعودة في السماء، فتحررتُ من طفولةِ ابنةٍ منكوبة، وحياة زوجية مثقوبة، وصرتُ أمرُّ أمام هذين الوحشين كلَّ يوم، أقدّمُ لهما بيدي أدويةً تخفف عنهما أوجاعا جسدية، وتطيلُ عمريهما، ليعيشا ما تبقى لهما في الحياة أسرى خيانة الطفولة والرجولة. ها هما الآن ينظران إليَّ مكسورَين، ولا يستطيعان الكلام، أمضي إلى حياتي، إلى مدافن أثرية، وألواح ومسلات، وفي أذني كلمات:
أهكذا تمضي السنون؟
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء، يا قَمَرِي، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت


زيد الحمداني كاتب وأكاديمي عراقي. حاصل على دكتوراه في الهندسة ويعمل أستاذًا جامعيًا في أربيل. له كتابين مطبوعين كَمَثَل حبة خردل (أشتات من تجارب القراءة والحياة)، وبابا حمورابي (نصوص ساخرة). يمكن متابعة حسابه على تويتر ZaidHamdany@

bottom of page