top of page

طقوسُ ليالي الأرق الطويلة

رحاب علي


تتغيرُ أشياء كثيرة وتبقى الكتابة بمعدةٍ فارغة إفطارًا مقدسًا يعقبُ الصوم الطويل عن الكلام. وبعد أن تكفّ عن التذمر عن تخلّي الكتابة عنك تُطاوعك شرطَ أن تدعها تتدفق وفق شروطها هي، تعلّمك كيف تحفر بئرًا عميقًا حتى تستقرّ يداك على منبع مياه جوفية سريّ داخلك، لم يُوجد ليرويك بل ليبلل ما جففته الأيّام في رُوحك، روحك الّتي تنسى سقايتها مرة بعد مرة.

أفتح عيناي على العالم محدقة إلى السقف في الأعلى. صوتٌ داخلي يستيقظ بعد دقائق ويقول لي: لقد تحولّت إلى ظلّك! هل هذا ما يتولّد عن فقد الشهية عن الحياة؟
أفكر في حيواتي المتخيّلة الموازية كثيرًا في الليل، في أن أعوّض بوار أرض أحلامي بإنبات الأخريات. هناك ليس عليّ سوى أن أغمض عينيّ وأحلم. أفتّش في آثاري القديمة فأجد دعوات بائتة، عن فزعٍ تنبأ بخسارة حدثت، فزع فقد القدرة على الحلم.

أقرأ آثاري القديمة وأقول لنفسي إنني لم أكتب بهذه الرداءة منذ كنت مراهقة. هل تعيدني الدائرة الّتي لا تدور ولا تكتمل إلى ما أغيّب ذاكرتي عنه؟
يقتفي الأصدقاء أثري بحثًا عن وجه عرفوه يومًا ما. أفكّر أن كلّ الأوجه الّتي حملتها يوما ما أفلتت من يديّ. هل تعرف مرارة أن تحاول الكلام ولا تجد صوتًا يخرجُ منك؟

أميل رأسي جهة اليمين لأنظر عبر ذاكرتي، أرى الشروق الذي ربّت على كتف كآبتي، فيما كان ينظر أستاذي إلى المرآة الأمامية حائرًا في سبب صمتي. أتذكّر حلم يقظته الذي أيقظني من سباتي الرُوحي، كالمرة الأولى التي تتذوق فيها شيئًا وتغرم به إلى الأبد، فأرى نفسي أخيرُا أعيش مجددًا في بُعدٍ آخر.
ينسى المرء كيف يعيش، مثلما ينسى رياضي متقاعد كيف كان يركض مارثونات أولومبية.

أنظرُ للرجل المغرم بأفلاطون وهو يشرحُ لي عن علاقة اسمي به. سماء بنفسجية تتزين كامرأة تُدرك في قرارة نفسها كم هي مغوية، فيما تخيّم على الفتية المتحلقين حول المائدة. أصلّي أن تدوم المحبّة، رغم أنني أعلم أنها لا تدوم وأصلّي رغم ذلك.

أقف وراء عدسة كاميرا افتراضية لأحفظ مشاهد لن يتذكرها أحد، إلا في لحظة حنين ساهمة للحظة بدت الحياة فيها أكثر خفّة. أقلب أرشيف الذاكرة وتتسلل إلى مخيّلتي جملة من جدال صباحيّ، أو من بقايا جدال آخر يحمل نكهة طعامٍ بائت، مخبأ للمساء على مقاعد قهوة في ناصية الشارع. جدال عن الذاكرة التي تقتصّ وتنحاز وتهمّش وتتجاوز، وعن الثقب الذي يمضي إليه كل شيء دون أن نستطيع بعده استعادة أي شيء كما كان حقًا.

عن المشي جيئة وذهابًا أمام نهرٍ يجدد ماءه رائحة الهواء في صدرك، ويحشوه بما لن تعرف إلا متأخرًا جدًا كم تحتاجُ إلى النوستالجيا، وأن ما يبقى في النهاية وما يمرر لياليك الوحيدة التي لا تمرّ هو أكثر الأحاديث هامشية وتفاهة، صدى الأصوات البعيد ببعد الحياة التي تبدو حياة أخرى الآن.
ستعود لتحاول ترميم خيباتك بأحلام عبثية، وتتذكر الحلم الذي عرفت معناه بسبب كتاب صوفيّ، عن الموت مجازًا.

يهمسُ الصوت مرةً أخرى، الروح ترى ما لا تراه العين التي تغفل عمّا هو أمامها تمامًا. تستبدل صوت كلاب الشارع بعد أن تنطفئ أنوار المدينة ليلًا بالحَمَامِ الذي لا يجرؤ على القدوم إلا بعد أن يتوه النيام في ميتتهم الصغرى. أي شيء يبدد ويكسر هذه الوحدة الطويلة التي لا تريدها رغم حاجتها إليك؟ تتفقد كل شيء مرة بعد مرة كألبوم صور عائلي سرمديّ. يهولك كيف تنسى، يهولك كم كثرت نسخك التي أصبحت من الماضي. يهولك عدد السنين التي تتراكم، بل ويهولك أن الأرقام باتت تفزعك كالكبار، يهولك أن أمنيتك أن تكبر أصبحت بعيدة جدًا ويمكنك رؤيتها بتقريب أي مرآة، ورغم ذلك لا تستسلم لحنين الرغبة في العودة إلى أي شيء، ربما لأنك منذ عقدٍ كامل تحاول القفز رغم سقوطك المتكرر إلى جادة أخرى تحدث فيها أشياء أخرى.

تكبر ولا تعود الأشياء المبهرجة تغريك رغم أنها لا تزال تثير فيك الرغبة، رغبة تشبه أثر الفراشات في المعدة، تصيب كل خلية في جسدك بالتوتر وتفقدك القدرة على الكلام، وتنسى مرة بعد مرة أن الخدعة ستنطلي عليك لأن الجنون حلوٌ رغم آثار عذاباته على جسدك. تملك الآن قاموسك الشخصي الممتلئ بالصفحات الفارغة عن معاني الأشياء بالنسبة إليك. تغمضُ عينيك الآن ولا يسوؤك كم أنت عاديّ وبالغ البساطة، تكره أحيانًا أنك تفرط في المحبّة وتكره حساسيتك وتكره لُطفك المفرط أحيانًا والنابع من خوفٍ دفين، تكره كم تبتسم سريعًا بعد محاولات جادة للعبوس والتمسك بالغضب، تكره أن خسارة الأصدقاء ممكنة ومحتملة، تكره أنك لا تجيد قراءة العلامات لأنك تثق بقلبك بإفراط، تكره إيمانك المتجدد بسحر المحبّة الأصيلة، وتكره كم تتذكر وكم تنسى، تكره أنك ستعيش دون أن تستطيع قول كل ما تريد قوله حقًا، وتكره أن كل هذا الكره مؤقت ولا ينقذك وأنك ستعود لتكتب للعناوين المجهولة فيما يزجي الأرقُ لياليك الواحدة بعد الأخرى.

رحاب علي حاصلة على ليسانس علم اجتماع، كاتبة وباحثة ومترجمة.

  • Instagram
  • Facebook
  • Twitter
bottom of page