top of page

خيط

العنود العتيبي

على حدوده الرحبة رسمتُ ملمحًا ثابتًا لوجهك، يتلقفني وجودك أينما رميتُ بعيناي تجاه ما لا أطيقه حملًا، يهجم برقته المترفة، فلا أتدثر منه مهما قاومته بكامل قواي، وجدتُني لا ألبث إلا وألحظ يداي تنسجك جزءًا جزءًا، حاملةً ثناياك الباذخة دونما مثيل، مرورًا بحاجبيك المعقوفين كجناح يمامةٍ حرة، وتطوافًا بعينيك المرتقبتين لهاوية غرق مستدام.

في لونهما أركن آمنًا، وفي خديك أنسجُ خيالًا وأهيمُ ليلًا، ليرنو خليلًا منذ عرفتك، فلا بأس بحبيبٍ يشقيه حبيب، لم أستغرق تفكيرًا عما وهبته لك، لأنك أهل مودةٍ حطت الرحال لديك، وهكذا مضيت باتجاهك.

نحوك أطوف بالأسفار مددًا، وأجوب فتيًا تجاه الطُرقات الممدودة لك، قاطفًا زهر بستانك، متشبثًا بصدى صوت أشواكه، لترتجف يداي كلما تذكرت ظلال شعرك، بتموجاته التي ظلت تتلون يومًا بعد يوم، لم أستطع الإمساك بحقيقته، كالحرباء تتجدد خصاله، لألفظ اسمك تمامًا وأرحل عنه، أو ربما لترحلين عني.

كحباتٍ من هداياها يرتسم طرفُ وجودك، أرمق السماوات صدحًا بحبالٍ تبترت، أعلوها لأفضح حظوة ما أملك، والآن أخيطُ مواصلًا جهدي لنسج ملامحك، بقذفٍ من خيبات الأرض الفسيحة، لتمطرني أرض منزلك بآمالٍ تهاوت على وجهي.

لم أتخيل يومًا بأنني سأحيا بلا انعتاق، لأتحول حيًا بما ترتحلين لمحبته، ويرحل سكونه بما يترفع دلالك عنه، ليكون معقودًا بما يحنو قلبك وتتدلل عيناك، ناقلًا قفص يمامتي حابسًا إياها في جوفه، لأجلك دونما كلل.

أعودُ للأروقة باحثًا عنك مجددًا، ليستقبلني العدم في حضرتك، ويربطني الخواء بعدما وجدتُ معناي بواسطته، منسابةً قصائدي على سطحه، ومتسربًا فؤادي أعلاه.

صرتُ كمن يختلسُ نظرة وحشةٍ لماضيه، باحثًا بخجلٍ جامحٍ عن ذكرى لا تعود، لأكرر ما أصبحتُه من سخط بفجورٍ وقنوط، ملتصقةً كلها في صدري مثل لعنة، أنا الذي قلتُ لك يومًا: الحياة حُلوة عيشيها!

ظلالك تلحقني مرةً بعد مرة، أنسيت؟ حتمًا كنت أتوارى منك باحثًا عنك، لم أنس لحظةً ليالي جمعتنا، وأيامًا بانت عما حملناه، بل أختالُ ذاكرة القلب نابضةً بذكراك.

لم أتعب في طريق بحثي عن ذكراك، لكيانك وجود في الممرات المكتظة، حاضرة في صدمات طفولتي، وخيبات الصبا وضياع الآمال، وباقيةً إلى حين عجزي عن الوقوف وحدي، إلى حين كف الحياة عن ضم وجودي، أتُراها تقترب؟

أتساءل عما إذا وجب علينا المضي نحو تلك المرحلة، لقد جازفت بما يكفي لأرعاك بملء الحيلة، مستدركًا هزيمتي بمقاومتك، تركتك صبارًا ينمو ليكتمل على العراء وحده، لم أتخيل لمرة بأنني سأكون ذاك الذي أخشاه في ومضات الهاجس، ممسكًا بناقوس كمال الفناء، باحثًا عن تهشيم روحه، متمسكًا بعصاه الواهية.

هل ألومك؟ لا أعلم ولستُ معنيًا بجوابه، المهم هو أنني حققتُ الإنصاف لكلينا وقد أصبحنا أندادًا، لتعود دفة السفينة إلى نصابها ونعود إلى بابٍ أشرقت شمسنا على ظلاله، حينما نمت بذرته فينا بمحض إرادةٍ منه، لا بمُنى قلوبنا وتمني أحلامنا، هددتُ عنادك الحثيث بأنها بحاجةٍ إلى سقاية، فإن لم نروها ستموت لا محالة، وها أنا شاهد على ما خشيته، سالكًا طريقي تجاه حمايته منك، لم أختر الإقدام.

شعرتُ بالاختناق عندما أمسكته، وازنًا بحجمه وثقيلًا بوزنه، منيت نفسي بأنه خلاصي من جحيم صنعته يداي، فقد تعرت روحي أمامك دون داعٍ، وشعرتُ حينذاك بزيف طمأنينة لم أعهدها قبلًا، آملتُ بأن تنمو سنبلة.

إنهم قادمون، أصوات نحيبٍ تتعالى واحدةً تلو الأخرى، وأطياف ممزوجة بأنهار مدماة تتهادى على السلالم، الذعر يكسو ملامح الكافة، لم أفعل سوى ما كان ينبغي أن يحدث منذ زمن، الأغلال تكبل يديّ.

العنود العتيبي هي كاتبة محتوى مهتمة بالثقافة والفنون، وعالمة نفس تبحث عن المعنى. يمكن متابعة حسابها على إنستغرام@alanoudsea

bottom of page