رسالة إلى حكَّاءة العينين
محمد علي باعيسى
هذهِ أولُ رسالةٍ أكتبُها بعد منتصف الليل، وليسَ بعيدًا أنْ تكونَ الأخيرة، لقد كان الليلُ شاهدًا على انهزاماتي المتكررة، حين تمرَّدت الحروف بعدما كانت تأتيني طوعًا، وهذه خيبةٌ سلَّمتُ بها منذُ زمن، ليس في بثِّها ما يثير الغرابة، إنما الغريب أن يتوهَ الفتى في المنزل الذي يحفظ تفاصيلَهُ عن ظهر قلب، تمامًا كما حدث ليلة البارحة، لم أدرِ لماذا قادتني قدمي إلى طاولة الكتابة بدلاً من الفراش؟ أمسكُ القلم فيتدفَّق الحبر والدمع في نفس الأوان، لربما هي الرهبة عند كتابة أصدق الرسائل، أن تكتبَ وإنْ علمتَ أنَّ المقصودَ بالرسالة لن يقرأها!
لا بأس إن بقيت هذه الرسالة غير مقروءة لفترات، هذه خيبة عليَّ أن أواريها مثلما فعلت في المرات الماضية، لديَّ -الآن- سجلٌ حافلٌ بالخيبات، لولاهُ لما كنتُ اليوم بهذا المستوى من الواقعية في الطرح، لقد بصَّرتني الخيبات بما غاب عني منذ زمن، علمتني أنَّ السقوطَ عادةً ما يكون مصحوبًا بالعزاء، فكان عزائي أن كتبتُ رسالتي إلى حكَّاءة العينين، إليكِ يا أكثر البشر براعةً في التنكُّر، يا من يُرافقني في كل الخطوات، أشربُ القهوة فيبدو خيالكِ على وجه الفنجان، أمرُّ بالحقول فأراكِ شامخةً بين الزهور، أنامُ عسى أن أجد في المنام وسيلةً للهروب منك، لكن أينَ المفر من امرأة تتسلَّل من تحت الأهداب؟! وليس هذا كل ما تملكين من مهارات، لقد شدَّني العرض الذي قمتِ به البارحة، حين قفزتِ –ببراعة- من سواد العين إلى صميم القلب!
يا ألله! لم أشهد في حياتي قفزةً كهذه، أنتِ التي تتردَّدين في اليوم مائةَ مرة، تحسبين ألف حساب لكل خطوة، وتُقدِّمين السلامة على أي شيء، بالله عليك، أينَ ذهب الحرص حين ارتميتِ من تلك الحافَّة الخطيرة؟ لقد كُنتِ محظوظةً بما فيه الكفاية، إذ كفاكِ الله عواقب السقوط، فأنزلكِ بهدوء إلى وسط قلبي، فكُنتِ أنعمَ الأشياء المتساقطة بعد المطر، يسقط المطر فيروي ظمأ روحي، وتسقطين أنتِ فيُزهر القلب وقد كانَ حُطاماً، يا حكَّاءة العينين، يا أقدر الناس على تلوين حياتي، معكِ أعيش في عوالمَ من السعادة، أحس فيها بما تحسه السمكة وسط الماء، وبما تجده النحلة في الروضة الغنَّاء، وبما يعيشه الطير المُحلِّق في كبد السماء!
على أن استذكاري للحظات السعيدة لا يعني أنني أتمتع بذاكرةٍ حديدية؛ من أكبر عيوبي أن ولدتُ بذاكرةٍ تتسرَّب منها الذكريات على الدوام، هذه الذاكرةُ جعلتني عرضةً لعددٍ لا حدَّ له من صنوف التنمُّر، إنهم يصفونني -تهكمًا- بأصغر المُصابين بالزهايمر، هكذا يكون الحال حين تجني علينا الذاكرة، مع مرور الوقت أخشى أن تتَّسع هذه الثقوب فيتسرَّب منها ما تبقَّى من ذكرياتي، فأنسى نهارًا قضيناهُ معاً بين أزهار الرُّبى، كُنتِ تشربين فيرتوي ظمأي، تُمسكين بيدي فأسيرُ غيرَ مبالٍ باهتزاز الأرض، لم أخشَ عليكِ إلا من الحمقى الذين تستفزهم أيادينا حين تتشابك، صدِّقيني، لن ترضيهم مشاهد الود هذه، تعالي نختبئ وراء تلك الشجرة، إني أراهم يختارون الزاوية المناسبة للإيقاع بنا، احذري ها همُ يُصوِّبونَ السهم تجاه قلبك، وها هو النزيفُ يرتدُّ على قميصي!
خلال سنوات حياتي الممتدة لأكثر من عشرين عامًا، لم أرَ أحدًا يؤدِّي الشرَّ بحقارة مثلما يفعل هؤلاء، يا للعجب! من رمية واحدة استطاعوا أن يُفرِّقونا وقد كُنَّا عصيَّين على الاختراق، ما عجز على فعله الأقدمون؛ حقَّقته سهامُ الموت في ظرف ثانية، في العادة يعزُّ علي أن أستذكر مشاهد الموت حتى لمن لا تربطني بهم أي صلة؛ فكيف إذا تعلَّق الأمر بمن تناثرتْ في جسدي حتى غدونا روحين داخل بدن، يا حكَّاءة العينين، طالما ظننتُ أن يكون هذا الفراق بمثابة الضربة القاضية لي، ومن حسن الحظ أن خاب ظني هذه المرة، توقَّعت أن يزيدني موتُكِ زُهدًا في الحياة؛ فإذا به يحوِّلني إلى أحرص الناس على كوكب الأرض، أجبرني هذا الحرص على بعثرة الدولاب بحثًا عن هداياك، إني أُعيد حفظ تسجيلاتك لعلمي أنها نوتات موسيقية لا مقاطع صوت، ثم أقوم بأرشفة المحادثات القديمة لأنَّ في أرشفتها صونًا لحُبٍّ حشوناهُ بين السطور!
حتى وإنْ كنتُ على قدرٍ من الرشاقة، واخترتُ أقصر الطرق المؤدية إليكِ، ستبقى الإحاطة بتفاصيلك مهمةً معقدةً بعض الشيء، فما ضاع من سنوات لا يمكن جمعه في ليلة واحدة، لكنَّ هذا لا يمنع أن أتمتع بما تقع عليه عيني من ألبوم الذكريات، يكفي أن أعثر على صورةٍ لكِ، صدِّقيني ستكون فرصةً عظيمة للتفكُّر في بديع خلق الباري، للتأمل في الطريقة التي نَحَتَ بها الجمال على الوجوه، فيا سعيدةَ الحظ في الحياة والممات، صدِّقيني لم تحظَ امرأة بمثل ما حظيتِ به من الجمال الربَّاني، لقد صبَّ الإلهُ عليكِ الحُسْنَ صبَّا، ثم أودعتْ فيكِ الطبيعةُ سرَّها الخالد، فكُنتِ في الصبح عبق النسيم، وفي الليل قمرٌ يبتسم!
محمد علي باعيسى مختص برامج الأدب في تلفزيون حضرموت الحكومي