top of page

أحوال الشعراء بين الإلهام وولادة القصيدة (نماذج مختارة)

نوير العنقري


معروف أن الشعراء قديمًا يُصوّرون حالة الإلهام التي تأتيهم بربطها بعوالم الجن والشياطين، ويُصرِّحون بذلك بتفاخر في قصائدهم؛ مما يضفي هالة من الهيبة والإكبار للعملية الإبداعية التي تنتج عنها ولادة القصيدة، وذلك ناتج من مستوى الوعي والإدراك للمجتمعات التي وُجد بها الشعراء منذ القدم.
أما في العصر الحديث تجاوز الشعراء مع مجتمعاتهم غالبًا هذه الفكرة، واستبدلوها بتصوير الحالة الانفعالية الشعورية التي تعتريهم حين نزول الإلهام الشعري، ذلك الإلهام الذي لا يعرف زمانًا، ولا مكانًا؛ فيصيب الشاعر دون إرادة منه أو تخطيط متى توافرت لديه المُقومات الفنية.
ومن خلال قراءة قصائدهم في وصف أحوالهم يتضح أن لكل شاعرٍ حالة مختلفة يعيشها حين ينهمر عليه هذا الإلهام من بدايته حتى اللحظة الحاسمة -ولادة القصيدة- ووحدهم الشعراء يحتملون تفاصيلها، ويُبتلون بتعب وإنهاك ذهني وجسدي أيضًا، فيعمد بعض الشعراء إلى تصوير هذه العملية، ربما رغبة منهم باستعادة تلك الهيبة المفقودة والتي ارتبطت بعوالم الماورائيات، أو إدراكًا منهم لقيمة التلقي لمثل هذه النماذج من القصائد التي يتبنّى فيها الشاعر أشكالًا من البنى الدلالية، والشكلية في معمارها للتأثير العميق على المتلقي وإقناعه بقدر المعاناة والجهد الذي يبذله الشعراء لتولد هذه القصائد التي قد تُقرأ في دقائق معدودة، وقد يلجأ الشاعر إلى نوع من المبالغة ليضفي عليها شيئًا من الجمالية الشعرية تدفع المتلقي لمزيدٍ من الاهتمام والاستشعار لقيمة الشعر الذي لا يخرج من الشاعر إلا بعد عملية مؤلمة طويلة كما يُصوّرها الشعراء أنفسهم.
ومن النماذج التي لفتتني في ذلك هذه القصيدة للشاعر عبد الوهاب أبو زيد:

عادةً ما تجيءُ القصيدةُ في آخر الليلِ
تنثرُ أمتعتي
وتُبعثرُ أوراقها في دمائي
تتمددُ فوق سريري
تمسحُ شَعري برفقٍ
توسدُني صدرها
ثُمَّ تحفرُ في جسدي
كُوَّةً
تتدفقُ مِن زيتها أنهر مِن ضياءِ
تلك عادتُها
حين تُفرغني من جحيم اكتماليَ
تملؤني بالخواء!
في هذه الأبيات يُصوّر الشاعر زيارة لحظة الإلهام له في وقت اعتاده وهو آخر الليل، وهذا الوقت يكاد يتفق عليه أكثر الشعراء، لكنه يمتاز عن غيره في رؤيته للحظة الإلهام بأنها كزيارة الأنثى الحبيبة التي تجمع في معاملته بين الرفق والقسوة، تعطيه من حنانها وأمانها، ثم توجعه بقسوة لتنتزع منه القصيدة المضيئة بالجمال.

وفي نموذج آخر للشاعر عبد الله الرشيد يُصوّر فيه أيضًا هذه اللحظة برؤية متباينة عن سابقتها:

حين جنّ الليل مارت في دمي أشياء لم ترحم شبابي
أنكرت نفسيَ نفسي واعتراني كالضبابِ
وإذا كف شديدةْ عصفت بالمضجع الوادع رعناء عنيدةْ
وإذا جسميَ واهٍ كست الرعشة جيدهْ
وإذا الجدران من حولي أشباح مخيفات بليدة
وإذا شيء غريب الكنه في قلبي وأصوات بعيدة

وإذا قطعة ذاك الضوء في الثغر قعيدة
وإذا القلب انتفاض وصراع في صراعِ
وإذا حبات ذاك ال...عطر رشحٌ في يراعي
فسَرتْ روح سعيدةْ
مازجت في روْح هذا الليل أرواحا جديدةْ
كان ذاك المشهد العاصفُ

ميلادَ قصيدةْ.

المشهد هنا شديد، وكأنه معركة خاصة بين الشاعر وإلهامه، خرج منها منتصرًا سعيدًا بقصيدته، لكن هذا الانتصار لم يحصل إلا بعد أن عانى، وتألم من عنف ذاك الإلهام الذي جعله يدور في دوامة غشته وأعمته بضبابها بلا شفقة ورحمة أفجعته في نومه.

أما الشاعر أحمد الهلالي فيعيش صراعه مع إلهامه لكنه أقل حدة وقسوة من سابقه:

تدثرَ غيمًا فاستفاق له الممشى
يسابقُ ما يرجو، فيلقاهُ ما يخشى
تعرّى له المعنى، ولكنّ لفظَه
نؤومٌ، فما جابَ القريحةَ ما أفشى
ضلالُ بيانِ الحبرِ تغويهِ صولةٌ
تمردَ فيها الحرف عن طاعة الإنشا
جثا فوق صدر(اللاب) يرجو صباحَه
فغشّاه من وهمِ الأهلّة ما غشّى
تباركَ في عينيهِ ظبيُ قصيدةٍ
يرى الماءَ، لكن ماؤه يشبه الوحشا
فأوحى لها لمّا أحسّ ارتفاعها
منحتُك صوتي فابتني فوقه عرشا
ألا يستحقُ الماءُ دلو قريحةٍ
رمى نفسه في البئر كي يرويَ العطشى؟
فقامَ إلى عينيهِ من نور حسّها
نساءٌ تصبُّ اللحنَ في لهفةِ الممشى
لتوقظَ وشيَ اللون في وهنِ صوته
يموّجُ عُفرا، قبلَ همستِه حُبشا
فعولن مفاعيلن، غيومٌ سوانحٌ
ترشُّ همومَ الناسِ من عطرها رشّا
جفولٌ يمامُ الشعرِ، رغمَ اقترابه
ولن يبتني يومًا على هامةٍ عشّا!!

المختلف في حالة الشاعر هنا أنه ركّز على تصوير الصراع بين المعنى، واللفظ، فالمعنى يحضر بسهولة، لكن ما يتعبه جفول الألفاظ عن إدراك هذه المعاني، فيبقى يستجديها حتى تهطل عليه كالغيم.
وهكذا من خلال هذه النماذج الثلاثة يتبين معاناة الشعراء، واختلاف أحوالهم في التعامل مع حضور إلهامهم الشعري، فمنهم من يحيا هذا الحالة بهدوء، ومنهم من يصل أقصى مراحل العنف والألم، ومنهم من يتأرجح بين الحالتين، ولو تتبعنا نماذج أخرى ستلوح لنا أحوالًا ومشاهد أكثر غرابة من هذه، ويبقى سر حكايا الإلهام مع الشعراء بين الحقيقة والمبالغة
لا يدركه سواهم، ونحن لا نملك إلا أن نتلقى قصائدهم، ونبحث في جمالياتها التي من أسبابها حالات الولادة التي يعانيها هؤلاء الشعراء.

نوير العنقري حاصلة على ماجستير الأدب والنقد من جامعة الملك سعود بعنوان: (الخاطرة جنسًا أدبيًا مجموعة (قالت) لفاروق جويدة أنموذجًا)،
تعمل محاضرة في جامعة حائل، وباحثة دكتوراه حاليًا. يمكن متابعة حسابها على تويتر@Nowyeer1443

bottom of page