top of page

     

 

نون وصاحبي المجنون 

زيد الحمداني

     يُقال أنه حين توفي آينشتاين وجد الأطباء بجانب رأسه الذي يعجُّ بالأفكار، كومة أوراق تمتلئ سطورها بمعادلات رياضية ومفاهيم فيزيائية كان يبحث من خلالها عن نظرية فيزيائية تفسر كلّ ظواهر الكون. نظريةٌ تتوحد فيها قوى الطبيعة، لكنَّه لم يُفلح في الوصول إلى نتيجة مقبولة علمياً. ومن يومها ما انفك العلماء يبحثون عن صيغة رياضيّة موفَّقة للتعبير عن تلك النظرية، وما وجدوا إليها سبيلا حتى هذهِ الساعة.

     ولن نبالغ كثيراً إن قلنا بأنَّ ولع المعرفة الشاملة بنواميس الكون قديمة قدم الإنسان في هذا العالم؛ فمثلاً نقرأ في مطلع الملحمة الرافدينية، ملحمة الهلال الخصيب - ملحمة گلگامش- التي حفظتها لنا ألواح سومر عبارةً تُمجِّد المعرفة الكلية المطلقة تمجيداً كبيرا:

’’هو الذي رأى كلَّ شيءٍ فغنّي بذكره يا بلادي

وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها

وهو الحكيم العارف بكل شيء‘‘

     ولن أكون بعيداً عن المعرفة ونذرها عندما أستعيد بذاكرتي صباح يوم تشريني منعش من عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين. اليوم الذي شهد لقائي بصاحبي المجنون. وما كنّا لأول وهلة لنعرف شيئاً عن تلك الصُحبة العميقة التي ستجمعنا فيما تبقى من سنواتنا فوق هذهِ الأرض، ولكنَّنا عرفنا ما ستؤول إليه بعد أن دار بيننا أولَ حوارٍ ونحن نقفُ في طابور تسجيل أسماء المتقدمين للدراسة في ثانوية (كلية بغداد). وما زلتُ أتذكر أول سؤال وجهته إليه:

     "لِمَ شَعرُك طويل إلى هذا الحدِّ؟"

     وكان شعره الأسود يتدلّى على كتفه، وتروح خصلاته ذات اليمين وذات الشمال كلما أدار رأسه.

     "وما دخلك أنتَ؟"

     أجابني على الفور بنبرة حادة بعض الشيء، واحترتُ في الرد، فما دخلي أنا حقاً؟

     سكتُّ مُذعناً لحماقتي وابتسم هو معجباً بفضولي لمعرفة أشياءٍ لا تخصني. فكان ذلك السكوت وتلك الابتسامة عربون صحبة قُدِرَ لها أن تدوم طويلاً، طويلا.

     ويوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر صارت معرفتي بصاحبي تتوطد، وصداقتنا تنمو وتُصبح أوثق وأصلب.

     ورغم اختلافنا الجليُِّ في المظهر فإنَّنا كنا متماثلين بالجوهر، وإن كان هو أشدَّ نباهة وأكثر قدرة على الفهم والاستيعاب مني بل ومن الكثير من أقراننا في المدرسة. وهذا ما جعله من المتفوقين الأوائل.

     ذات يوم جاءت حصةُ المطالعة وبدا لي من صديقي ما لم أجد له تأويلاً في حينها وأمسى جزءًا من ذاكرتي، ولا زلت أتأمل تفاصيل الأحداث في ذلك اليوم وأراها تمرُّ أمام ناظري كبانوراما ملوَّنة بكلِّ ألوان الطفولة البهيجة المحببة للنفس. بقامته القصيرة نسبياً وصلعته البراقة وصوته الرخيم وابتسامته الساخرة، كان مدرس اللغة العربية الأستاذ المرحوم (سعد الحران) يبدو لي عملاقاً بسعة علمه، وجميلاً بصفاء روحه، وجذاباً بطريقة شرحه لدروس اللغة العربية والمناقشات التي يثيرها فيها. وهذهِ المواهب ليست بعجيبة عند رجل منحدر من مدن الشعر والأدب في جنوب العراق وبالتحديد من مدينة الناصرية، التي نزح منها إلى العاصمة بغداد في ستينيات القرن الماضي.

      قرأتُ في مذكراتِ أحدِ أبناءِ الناصرية أنَّ (عائلة الحران) تنحدر في الأصل من (وادي حران) في سوريا. وفي عشرينيات القرن الماضي ومن ذلك الوادي هاجر بعض أفراد العائلة إلى العراق واستقروا في مدينة الناصرية.

     بدأ درس المطالعة في ذلك اليوم المشهود بقراءة (الأستاذ الحران) لنص من كتابِ المطالعة والنصوص ثم انتخب بعض التلاميذ عشوائيا لتكملة قراءة باقي النص، حيث كان الطالب المُختار يقرأ جزءاً يسيراً وقد يحدث أن يسأله الأستاذ الحرّان بعض الأسئلة التي تتعلق بمعاني الكلمات أو يطلب منه أن يشرح الأفكار التي يمكن استنباطها من النص المقروء.

     فوقع اختياره يومئذ على صاحبي ليكون أول من يقرأ، فقرأ وقرأ وقرأ، ونحن - أقصد سائر التلاميذ وأستاذهم - نستمع إليه بشغف واستمتاعٍ حتى أتى على النصِّ بأكمله، فهو يقرأ بنطق سليم ومخارج الحروف تخرج من فيه دون عيب أبدا. فأُعجب بالقراءة الأستاذ ومن كان يستمع إليه من التلاميذ، عادةً ما يجلس في قاعة الدرس وروحه تحوم حول ملعب الكرة أو حانوت المدرسة، وهذا كان حالي في أغلب الحصص ما عدا حصة اللغة العربية التي كنت أحبها حباً جمّا.

     وما كان لأستاذنا الحران أن يرضى عنك بيسرٍ دون أن يوقعك في مطبٍّ لم يكن في حسبانك البتة، وهكذا فعل يومها مع صاحبنا حين أراد إحراجه بسؤالٍ طلب فيه شرح معنى كلمة لا أذكر ما هي بالتحديد الا أنها كانت تنتهي بحرف النون، حيث وجه لصديقي السؤال التالي:

     "طيب، من المقصود بهذه الكلمة. معشر الإناث أم الذكور؟"

     "يا الله! ما أقساك يا أستاذ. وقد أوقعت صديقي الصدوق في فخ المعاني؟"

     قلت ذلك في نفسي وأنا منزعج من الإحراج الذي أيقنتُ أن صاحبي كان يعاني منه في تلك اللحظة، فمرّت برهة، ثم نطق الصاحب بلهجة قوية:

     "أستاذ، عندي طريقة لمعرفة من هو المقصود بالخطاب بهذه الكلمة: إن كان الحرف ما قبل الأخير، أي قبل النون، ساكنا فهي نون النسوة والمقصود معشر النساء. و إن كان متحركا فهي نون التوكيد والمقصود بها الذكور".

     قال قولته هذه وكان الأستاذ يصغي وهو مبتسم ثم قال:

        "أحسنت يا بني، أحسنت. فعند الإعراب يتبين لك المعنى".

     أيُّ معنى يا أُستاذ، وأيُّ إعراب؟ ألسنا في درس للمطالعة؟ ما الذي جعل العلوم تشتبك مع بعضها؟ لكلِّ درسٍ من الدروس ميقاته المعلوم وكتابه الذي يحتوي مادته. ما هذا الخلط بين الأدب والنحو؟ وأنت يا صاحبي، من سمح لك بالاعتداء على تلك الحدود؟

     كانت تلك الأسئلة تطنُّ في رأسي طنينا صاخبا غير أني لم أتفوه بحرف واحد. فالقاضي راضي، ولا يُفتى ومالك في المدينة. فلملمتُ دهشتي وعدتُ إلى البيت.

     واليوم وأنا في النصف الثاني من عقدي الرابع، أحاول جاهداً أن أقرأ التاريخ بحقائق الجغرافيا وأن أبحث في الهندسة غير متجاهل لعلم الاجتماع، وصار ديدني أن أفهم كيف تتداخل المعارف وتتآزر العلوم، أحاول أن أقتفي أثر صاحبي المجنون الذي يحلل النص الأدبي بقاعدة نحوية!

     ولربما يسأل سائل عن اسم ذلك الصاحب وإن كانت معرفة الاسم لا تقدم ولا تؤخر، إلا أن ما يزيد الموضوع تشويقا أن الاسم مذكور في القرآن الكريم. واقرأ لو شئت قوله تعالى:

"وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد"

     مهلاً.. على رُسلك.. لا تحسبني أخلع على صاحبي أحمد بردة القداسة وعمامة الرئاسة.. فلم يكن المسكين نبياً مرسلاً ولا ولياً منتخباً. كان فقط صاحباً مجنوناً.

زيد الحمداني كاتب وأكاديمي عراقي. حاصل على دكتوراه في الهندسة ويعمل أستاذاً جامعياً في أربيل. له كتابين مطبوعين كَمَثَل حبة خردل (أشتات من تجارب القراءة والحياة)، وبابا حمورابي (نصوص ساخرة). يمكن متابعة حسابه على تويتر ZaidHamdany@

bottom of page