top of page

جدارٌ أجوف

رزان الهاشمي


أكره الليل.. لم أكن… لكنه أصبح يعطيني طابعًا غريبًا عن معنى الفراق والحنين، يقصيني بضبابيته غير المفهومة، إذ أتعجب كيف يمكن لأكثر ساعات اليوم حنانًا وقربًا، التشكل لأكثرها صمتًا وجفاء.
نظرت للمرآة وبقيت هذه العادة الوحيدة التي لم تصدأ في عقلي، بقيت يقظة وحاضرة، ولعل هذا يبرر وجود أكثر من مرآة واحدة في محيطي، ويكأنني أؤكد بطريقة غير واعية على حاجتي لأجد الجدوى، ألمسها كما هي بحقيقتها، ورغم تشكّل الأشياء من حولي بألوان لا تشبه ذاتها باتت كتبي أقل توهجًا وقميصي المفضل ماعاد زاهيًا، إلا أنني بقيت كما رغبت لنفسي أن أكون، حقيقية وشفافة جدًا.
أقضي الصباح في سريري تحت مصباح يتأرجح بخيط كهربائي واحد على وشك الوقوع علي تمامًا، تجاهلت وقوعه المفاجئ من السقف وأتيت لأكتب لك هنا أيها "الغريب". لست انتحارية ولكننا لسنا المسؤولين عن الكلمات أليس كذلك؟ هي من تتحكم بنا وإن كانت كلماتي تحثني للكتابة لك فسأفعل، شاء ذلك المصباح أن يقع أم لا:

"أهلًا أيها الغريب. جلست في يوم إجازة غير مخطط له، أفكر في الأحداث الحقيقية القليلة التي أصابت روحي مؤخرًا. وكنت أنت أول من يظهر بمقدمة القائمة، إذ إن عهد الجرح حديث، والحنين لم يعد تشكيل نفسه بعد. وبهذا أعني أنني لطالما كنت مصابة بالحنين، ولم تتوقف هذه الحالة عن إعادة تعريف نفسها لي قط. لكنني وبكل خيبة لم أتوقع أن يتحول الشعور ليكونك يومًا ما، لكنني لا زلت أفكر بك. كم تبدو بعيدة وغريبة هذه ال (ك) المشارة إليك. تسقط من ذاكرتي تفاصيلنا شيئًا فشيئًا، لكن لن تسقط البداية. أتذكر بداية حديثنا بتعريفنا أصدقاء وهذه الحقيقة التي آلمتك حينها كثيرًا، هي ذاتها التي تؤلمني الآن. كانت تحثّني كلماتي بشدة حينها للكتابة لك. كنت أتمّنع إذ أعلم أنني بمجرد كتابتي لك ستتوغل بداخلي أكثر، وربما سترسم لك الكلمات طريقًا معبّدًا إلى الداخل. كانت الكلمات ملحّة بشدة إلا أنني رفضت تضمينك بيومياتي، ورغم عدم كتابتي لك، وبهروبي الواضح بالأشهر الأولى، أبيت أنت إلا أن تحفر طريقك الخاص برغبتك الواضحة منذ اليوم الأول. لم أحتج لأكتب حتى أصنع لك هذه المكانة، وهذه المرة الأولى التي يحدث بها الحب بقلبي وليس في الصفحات."

توقفت عن الكتابة وخرجت لأجلس أمام شرفة مطلّة على شيء يشبه الأشجار، في مقهى يحاول أن يكون حميمًا رغم كل ما يحيطه من إسمنت، لأتصل ولو من بعيد بهذه الطبيعة التي يتوق لها جسدي الصغير. لم تقلّ رغبتي للراحة قط. أفهم مدى استحقاقي لها وإن كانت الراحة هنا تتمثل لي في العزلة، إذ تبدو الأمور معها أقل صخبًا وغربة وأكثر حضورًا وسلامًا.
لكن كل المشكلة تكمن في التوقيت، فهذه الراحة تأخذ شكل الغد دائمًا، فهي إلى الأبد مؤجلة.
وفي هذه الأثناء وعلى الرغم من تكاثف الغيم حولنا ظهر لي ضباب متشكّل على هيئة بشر، أو بشر تشكل على هيئة ضباب.
أخذت لها كرسيًا بجانبي وأطالت النظر تجاهي حتى استفزتني لبدء الحديث:
عذرًا، هل هناك ما يستجدي النظر؟
الروح.
استفزني الرد المقتضب والهادئ في آن وبادرت الحديث بنبرة عالية:
وكيف تستطيعين النظر إلى روحي!
الروح تخرج من الجسد عندما لا تجد ما تحيا لأجله.

شيء ما بهذه الجملة صاخبة المعنى أفزع روحي. اتخذت قرار الذهاب وهكذا أعلن اليوم نهايته قبل أن يبدأ. عدت للمنزل لأجدني في المرايا الأربع، موزّعة بشكل هندسي. وغضبت لحقيقة أن جملتها الغريبة أصابتني في شك: ماذا لو كانت هذه الصورة انعكاسًا لروحي المتمردة، التي أعلنت خروجها من هذا الجسد الهالك، وكلما نظرت للمرآة فأنا أراها؟ الروح المقدسة التي نفخها الله فينا، أرى تكوّنها غير القابل للتفسير، حقيقتها التي تعلن نفسها في الغيب، واثقة وصامدة، بعيدة وغير محسوسة.
حاولت جاهدة أن أصمت هذه الفكرة، وعدت مرة أخرى لأكتب لك:

"أهلًا أيها الغريب. ها أنا أنظر من النافذة إلى الغيم كما كانت ليلة فراقنا. لطالما تشكل حنيني على هيئة السماء، وكم ضحكت لسخرية الأمر، المحزنة، أن تنتمي لقطعة سحاب زائلة. ونقطة اتصالك مع ما تنتمي له هي لحظة هطول المطر، فيتصل الأسفل بالأعلى. وبينما لا أزال أحاول النوم ويحاولني الأرق، ظهرت لي ذكراك من جديد وأدركت كم كنت رقيق اللهجة وشديد الحب ومفعمًا بالحياة. كم كنت لا تشبه ما أصبحت عليه، ولربما كم كنت لا تشبهك بالأساس."

______

هاهي الشمس تطل علي ساخرة معلنة يومًا آخر في هذا الجحيم، كم هي مستساغة غصة الليل، وكم هي بعيدة وغريبة تلك التي تأتي في الصباح.
قررت الذهاب لذات المقهى. أحاول الهرب من الرسالة ومنك ومن ثقل الصباح، وكذلك شيء ما بداخلي كان يتوق لأن يراها مرة أخرى: "المرأة التي تنظر إلى الداخل". يبدو اسمًا جميلًا، تبدو غير مخيفة الفكرة، أن تنظر لروحي وهي تخرج.

وجدتها تنظر لي من بعيد، بذات المقعد. كم تبدو ضبابية الهيئة، لكنني رفضت رغبة قدميّ بالهرب ودخلت لأجلس بكل هدوء بجانبها وبصوتي المهزوز تجرأت على السؤال.
أعتذر لذهابي المفاجئ صباح البارحة. أربكتني جملتك الغريبة، ولكنني هنا الآن أريد أن أسمع أكثر إذ أشعر أن هناك منطقًا في ما قلته.
نظرت لي ببسمة عامرة وبدأت الحديث بهدوئها ذاته.
روحك مصابة، الأرواح تصاب عندما تَفقد أو تُفقد. يشكل عليها الأمر، لذا تتكاثف الأرواح الضائعة في الجنائز والمقابر. تستطيعين رؤيتها إن نظرتِ جيدًا للداخل، وعندما تُفقد الأرواح يصعب إعادة ضبطها، فتبقى دائمًا ناقصة تحمل من الفجوات ما لا يحصى عده، إذ إن هذه الحياة ديدنها الفقد. ومع كل تلويحة يد، ينقص من كمال هذه الروح، فيتشكل باب. وهذا الباب ماهو إلا مخرج لهذه التلويحات اللانهائية. باب يتكون من ذكرى من فقدنا، تفاصيلهم تشكل أشلائه، كل اسم يكوّن كسرة من هذا الباب. وما إن تكتمل التلويحات ويصل النقص أقصاه، يفتح الباب وتخرج هذه الروح حيث الضفة الأخرى، إذ لم يعد الجسد الذي يحملها قادرًا على التلويح مرة أخرى، ولمنطقة الأمر، رغم صعوبته، لا تستطيع أن تخسر ما لا تملك. لذا روحك لم تخرج بشكل كامل لأنك لم تملكي ما فقدتِه يومًا. لوّحت بعذاب وألم الفاقد، بينما كنت فارغة، تلاشى منك، قبل أن تحوزي عليه، ولهذا بقيت محاصرة، لا تستطيعين بدء بناء الباب، ولا تستطيعين البقاء داخل الجدران.
إذًا ما الحل؟

صمت عارم. وجه متأجج. أنفاس تلاحق بعضها. أرجل تركض. بؤرة عين تتسع.
انتهى الحديث عند السؤال، هل أغضبها سؤالي؟ عدم فهمي لكلامها الطويل والمشفّر؟ لما استعجلت الذهاب؟
حاولت أن أتخفف من هذه التساؤلات وغرابة الموقف وعدت بخطى هادئة للمنزل، إلا أنني ما لبثت أشعر بأن أحدهم كان يلاحقني، شعورًا غريزيًا لنقل، وكلما ألتفت بخيبة كبيرة أجدني وحيدة ما أزال.

كان يومًا عاديًا، حاولت أن لا تطرأ الفكرة على عقلي، أن لا أفكر بالنافذة والباب والمرأة الضبابية وروحي، أن أدع عقلي يحظى بكل الأفكار العادية والمملة والرتيبة الممكنة.
__

عادت المرأة التي تنظر للداخل إلى أدراجها. ترجف خائفة بينما يقابلها في الضفة الأخرى من المقهى شقة يملؤها بضعة رجال يتمحورون على كاميرات المراقبة ويطفو على نظراتهم قلق غير مبرر. وبينما أزالت قطعة بلاستيكية من أذنها بذعر شديد بدأ أحدهم بالصراخ عليها
كيف سمحتي لنفسك أن تخطئي هذه المرة؟ كل ما كان عليك فعله هو أن ترددي الرسالة المشفرة لمن حددنا الموعد معها.
أجابت والدمع يتجمع في عينيها
لم أفهم، لم أفهم.. هي من أصرت على أن أجيب. كانت ملحة في أسئلتها وحادة في نظرتها، لم يزاولني الشك في أن لا تكون هي من نريد.
وقعت المرأة على ركبتيها متوسلة بينما دخل أحدهم مقاطعًا الحوار بصوت حاد
لا بأس، إنها مجرد عمل غير صالح.
تحرك الرجال بعد هذه الجملة كمجموعة من النمل تلاحق بعضها البعض، لديهم خطة وأثر يقودهم إلى الطريق.
___________

مضت أيام خاطفة لم يذهب عني الخوف بل زاد حدة. إذ شعرت بأن كل خطوة أخطوها مراقبة، وكل مكان جديد ارتاده أرى المرأة التي تنظر للداخل. لكنها خسرت هالتها الساحرة وفقدت اهتمامي بحديثها الفلسفي، إذ صعب علي التصديق أن وجودها في كل مكان أذهب إليه محض مصادفة. كانت ترمقني بنظرات يملؤها الندم، ولم تكن تبعدها عني. حاولت جاهدة أن أفهم ماذا كانت تحاول أن تقول، لكنني عوضًا عن ذلك ذهبت إلى المنزل قلقة ومنزعجة، إذ باتت الصدف المتكررة هذه تفسد راحة أيامي.
أخذت أقراصي قبل النوم على غير العادة. نفضت فراشي من كل الأفكار السلبية التي قد تصيبني بالأرق، وقررت أن أكتب لك لأن فكرة وجودك تكفي لتهدأ من روعي الليلة:

"أهلًا أيها الغريب. ساورتني جميع المشاعر مؤخرًا، ولم أفهم هذه الكثافة بعد. قلق، غضب، حنين، حب حزن، سعادة. وكأن مخزون المشاعر في داخلي يتقاتل ليعيش أيامه، ولتسمح له الفرصة ليكون. ومع هذه الكثافة غير المبررة، فهمت أمرًا صعب علي مؤخرًا: أن على النهايات أن تحدث مأساوية هكذا. كنت أشعر بالامتعاض مسبقًا لنهايتنا، نهاية حكايتنا التي لم أستطع التعافي منها لفترة طويلة، لأنني أجبرت على التلويح بينما يداي رغبت بالمصافحة. ولكنني وبكل الحب الذي أحمله لك بداخلي، استطعت برعونة فائقة أن أدعك تنظر من الضفة الأخرى على ألمي، بكائي الذي ماعاد يحرك ساكنًا بك، على غصة الحب الذي أدرك فائضه."
أوقفتني عن الكتابة طرقات الباب. كنت مشغولة في جملتي التالية التي سأكتبها لك. لم تكن هناك مساحة لأفكر أنه ليس من المفترض في هذه الساعة المتأخرة من الليل أن أجد زائرًا غير منتظر. فتحت الباب على عجالة لأنني رغبت أن ينتهي أمر الطارق وأعود للرسالة مرة أخرى، أعود لمساحتي الآمنة معك.
باب مفتوح، المرأة التي تنظر للداخل، أوجه غير معلنة، دموع وتوسّلات، أياد ضخمة، ألم واحمرار، صراخ وعويل، فم يغلق وآخر يفتح، جمل تردد "عمل غير صالح،" جسد هزيل، "لا مقاومة،" أوراق تحرق، عين تغلق.
صوت يتوقف.
____
أحب الليل…. لم أكن….
الخروج من الجحيم، الطريق إلى اللاعودة. باتت المرايا وحيدة في الجدران تجسّد حالة فقد حقيقية، والملابس حزينة المنظر، والمقاهي صامتة الحركة. خسر العالم روحًا لوّحت أول تلويحة وداع، وظنت أنها الأخيرة.


رزان الهاشمي هي كاتبة تخوض في غمار الحياة، مؤسسة ومساهمة في العديد من المبادرات والأنشطة الثقافية. يمكن متابعة حسابها على @rllfz

bottom of page